صفحة الكاتب : يسر فوزي

شهقة الوجع
يسر فوزي
بينَ بواسِقِ الوَجَع وآيَات الشِّفَاء تَمَدَّدَتْ أَحْمَالُ جَسَدٍ نَخَرَهُ سُوسُ التَّعَب وصَوتٌ مَكتُومٌ تَلُفُّهُ رُوحُ الشّقَـاء، يَهُزُّ أطْرافَهُ عُنوَةً رَغْبةً فِي البَقَاء .... طالَ تَجديفُهُ بينَ أمواجِ الألَم باحِثًا عن شَهْدِ الزَّبَدِ لِيُبَلِّلَ رَعشَةَ الوَجَعِ الدَّفِين، ويَتَرجَّلَ عن مَرارَةٍ مُثْقلَةٍ بالأَنِين... فالجَحِيمُ يَتلَظَّى   بينَ مُقْلتَيهِ والحِمَمُ تَجثُمُ عَلَى كَاهِلٍ أفقَدَهُ اللُّهَاثُ رَحيقَ الرّبِيع ...
و مــَـاذا بَعد؟؟ مازالَ الوَجَعُ يَطرَحُهُ بينَ وَسائِدَ الفِراش مَفزُوعًا تُساوِرُهُ الوَسَاوِسُ الرَّعْناء، أَلَم يَحِنْ الوَقتَ بَعدُ لبَتْرِ قَوائِمِ هَذا العَناء؟؟.
يَتمَدَّدُ ثَانية، يَتَملمَلُ عَلَى جَانِبَيْهِ المُنْهَكَيْنِ، ينْثَنِي مِن نَقْرِ الوَجَع الذّي يُعاقِرُ فَكَّهُ المُنْتَفِخ. لَعَنَ اللَه ذلِك الضِّرس الدَّخِيل المُمتَدَّ عَرضًا مُخالِفا سُنّة تَراصِّ الضّرُوس. يَتَســاءَلُ: " لِمَ أَتَى مُعارِضًا ثَائِرًا عَلَى سَيرِ السُّنَن؟؟ أَلَم يَجِدْ مَكَانا شَاغِرًا ليَلتَحِقَ بالرَّكْب؟؟ ".
فَضّلَ المُزاحَمَة إِذَن .. وإِن خَالَفَ القَاعِدَة... أَنَا مَوجُودٌ شِئْتُم أَمْ أَبَيْتُم .... أَنْبَسِطُ عَرْضًا .. أَتَمَدّدُ طُـولًا... ولَكِن لَا لإقْصَـائِي.
 تُسْدَلُ عَلَى مَلاَمِحِ العَلِيل سَتائِر الذُّهُول. يَضْحَكُ والمَرارَة تُطْبِقُ عَلَى فَكَّيْهِ وقَرْقَعَةُ أَسْنـَـانِهِ تَلْعَنُ الضِّرسَ اللَّئِيم ....
أَنَّى لَهُ نِعْمَةَ سُكُونِ الجُفُون وهَذَا اللَّعِينُ يَجْتَثُّ عُرُوقَهُ فِي كُلِّ حِين؟ وحَبَّاتُ الوَجَعِ تَنْقُرُ دُفُوفَهُ. حَتّى الصَّوتُ المَلائِكِيّ السَّاكِنُ نَبْضُهُ غَــدَا نَعِيقَ بُومٍ، لَمْ يَعُدْ لَهُ رَجَـاءٌ. لَطَالَمَا هَدْهَدَ غَمَـامَةَ أَشْجَانِهِ ورَطَّبَ غَلِيظَ أَحْزَانِهِ.
دَاعَبَت جُفُونَهُ لهُنَيْهَةٍ ظِلاَلُ وَسَنٍ مُنْفَلِتَةٍ مِن ثُقُوبِ الأَلَم. ثُمَّ أَفَاقَ والوَجَعُ يُحَدِّقُ بِهِ مِن كُلّ حَدْبٍ وصَوب.... تَذكّرَ تَمَائِمَهُ وَقتَ الشَّدائِدِ.. لَمْ تُسْعِفْهُ دَمْدَمَةُ شِفاهِهِ بقِرَاءَة مَا تَيَسَّرَ مِن أَدْعِيَةِ الشِّفَاء... وكَيفَ لَهُ ذَلِك ومَجَانِيقُ الوَجَعِ دَكَّت حُصُونَ الذَّاكِرَة، وأَتْلفَت شَظَايَا فِكْرِهِ  وبَاتَ يُعانِقُ هَذَيَانَ شَهَقَات الخَاصِرَة.
وبَعْدَ لَأْيٍ, مُتَثاقِلاً يَنْهَضُ مُتَّكِئًا عَلَى صَدَى أَوجَاعِهِ، يَبْحَثُ فِي دَفَاتِرِهِ القَدِيمَة عَن تَمَـائِمَ خَطَّهَا ليُرَدِّدَها حِينَ يَطْوِي القَهْرُ ذَاتَهُ أَو يَغْمُرُ الخَوَاءُ جُيُوبَهُ عِنْدَ مَوَاسِم الجَدْبِ. وطَفَقَ يَتَأَمَّلُ أَورَاقَ اعْتِمَادِهِ لِنَيلِ رِضَاءِ البَارِئِ وانْتِظَارِ غَيْثِ رَحْمَتِهِ....... هَذا دُعَاءٌ لفَكِّ الشُّؤمِ والنَّحْسِ، وذَاكَ دُعَاءٌ لِتَوسِعَةِ الرِّزْقِ ،وآخَرُ لقَضَاءِ الدَّين...
 عَسِيرٌ دَرْبُهُ...  مَحْفُوفٌ بشَظَايَا سُوءِ الطَّالِع، هَكَــذَا خُيِّلَ إِلَيْهِ، ومَضَى يُخلْخِلُ أَوجَاعَهُ كَالوَاثِق: " لَو وَاظَبْتُ عَلَى الدُّعَاء لنِلْتُ الفَرَجَ مِن أَوْسَعِ الأَبْــوَاب ولَكِنَّنِي مَا إِنْ أَلْمَسُ فَرَجًا أنْقَطع عَن عَادَتِي مُوَلِّيًا ظَهْرِي لدُرْجِي إلَى أَنْ يَصْدَأَ قُفْلُهُ الحَدِيدِي ".
أَدْرَكَهُ الوَجَعُ مُجَدَّدًا لِحَدِّ انْعِقَادِ لِسَانِهِ. اتَّسَعَتْ مُقْلَتَاهُ حَدَّ ابْيِضَاضِ الأَحْدَاقِ.. كَيفَ لِهَذا الوَجَع أَنْ يَتَجَمَّدَ لِحِين ؟؟.
هَمَّ مُسرِعًا لمِحْرَابِهِ، أَمْسَكَ التَّمِيمَةَ بِيَدَيْهِ المُرْتَعِشَتَيْنِ وأَنِينُهُ يَخْرُقُ سُكُونَ هَزِيعِ اللَّيل، اسْتَغْفَرَ المنّانَ وشَرَعَ فِي الدُّعَاء. اخْتَلَطَ عَلَيهِ العَدُّ ولَم يُوَفَّق فَالمَطلُوب تَكْرَارُ الدُّعَاءِ مـَائةَ مّرَّةٍ وإلاَّ ذَهَبَ جُهْدُهُ أَدْراجَ الفَرَاغ. ولَكِن أَنَّى لَهُ ذَلك وأشْواكُ الوَجَعِ تَغْرِسُ مَقالِعَها بَين دِفَّتَيهِ؟.
 يَستَرِدّ أنْفاسَهُ المُنهَكة ويَتذَكَّرُ سُبْحَةً لا تُفارِقُهُ قَدْ وَشَّى بِها مِعْصَمَهُ العَريض للطَّوارِئ إِذَا ابْتَلَى بها فَجأةً... لَعَنَ حَظَّهُ فِي لَيلَتِهِ اللاّهِبَةِ، فَرَطَتْ حَبَّاتُ سُبْحَتِهِ حِينَ عَضَّهُ الوَجَع ... تَكَوَّرَ مُسْجِيًا يَلتَقِطُ حَبَّاتِ سُبحَتِهِ المُتَناثِرَة... نَسِيَ أَوجَاعَهُ خِلاَلَ رِحلَةِ البَحثِ عَنِ الحَبّاتِ وانثَنَى يُعِيدُ البِناءَ مِن جَدِيد،حَبَّةً تَتْلُوها حَبَّة، وأرْدَفَها بعُقدَةٍ تَتْلُوها عُقدَة كَي لا تَنْفَرِطَ مِنْهُ مُجَدَّدًا .... اسْتَعَاذَ مِنَ الشَّيْطان وشَرَعَ فِي الدُّعاء، إلاّ أنَّ عَينَيْهِ وَقَعَتَا عَلَى حَبَّتَيْنِ مِنْ سُبْحَتِهِ فِي رُكْنِ الغُرْفَةِ. فتَطَيَّــرَ.. ركِبَهُ الهَمّ وأَطْلَقَ زَفَرَاتِهِ العَمْيَاء: " لا بَأْسَ سَأُلحِقُهُما بِالرَّكْبِ ". لم تُسْعِفْهُ يَدَاهُ الخَائِرَتانِ فِي فَكِّ عُقَدٍ أَتْقَنَ إِحْكَامَ نَسْجِها.... أَخَذَ مِنْهُ التَّعَبُ الكَثِير، وأَمْطَرَ وَابِلٌ مِنَ العَرَقِ جَسَدَهُ المُنْهَك... يَعْتَصِرُ قَلْبَهُ النَّحْس. وبَاتَ يَرْتَشِفُ بِلَذَّةٍ مُلْتَهِبَةً تَفاصِيلَ الوَجَع... يَتَرَنَّحُ ويَتَسَاءَلُ " مَتَى تَلِينُ حِدَّةُ الألَمِ وتَذْهَبُ إلَى حَالِ سَبِيلِها مُنَغَّصَاتُ قَهْرِ الدُّجَى ".
يَنْتَفِضُ مِن كَربِهِ حَدَّ الاسْتِواءِ، يَعَضُّ حَشَايَا الوِسادَةِ وتَطْفُو عَلَى أَهْدابِهِ حُمْرَةُ النُّعَاسِ، تَعَلّقَت عَيْنَاهُ بِأضْواءِ ثُرَيّا فِي سَقْفِ الغُرْفَةِ, أَخَذَ يَبْحَثُ بَينَ أَلْوَانِ بَرِيقهَا عَن شَارِدَةٍ أَو وَارِدَةٍ تَلَتحِفُ تِيـهَ أَوجَاعِهِ.. تَسَمّرَت مُقْلَتَاهُ فَوقَ تُخُومِ الثُّرَيّـا، الضِّرْسُ اللّئِيمُ يَرْتَدِي وِشَـاحا أَحْمَـر ويُحَدِّقُ بِه. تَطَلّعَ ثَانِيَة والذُّهُول يَرْسمُ أَفْيَاءهُ عَلَى مَلاَمِحِ وَجْهِهِ المُتَخشِّب، تُشْعِلُ دَهْشَتُهُ شَهْوَةَ الغَرَقِ فِي اليَبَابِ ليَنْدَثِرَ هُنَاكَ بَينَ طَيّاتِ التُّرَابِ ... ابْتَلَعُهُ كَاهِلُ الفَزَعِ وبَاتَ يَنتَفِضُ كفَرِيسَةٍ مَفْزُوعَةٍ مِن زَندِ قَنَّاصٍ. طَالَبَهُ بالاسْتِقامَةِ والإنْصَاتِ،
وشَرَعَ فِي تِلاَوَةِ خُطْبَتِهِ العَصْمَاء:
- " كَفَاكَ رَسْمًا لظِلاَلِ أَوجَاعِكَ البَاهِتَةِ فَوقَ أَعْقابِ عمَامَتِي... كَفاكَ وُقُوفا فَوقَ صَومَعَةِ الرّجَاءِ ... أَينَ أَنْتَ مِن أَزَامِيلِ الوَجَعِ التّي تَطْرُقُ خَاصِرَة الزّمَانِ ويَزْدَحِمُ بأَنِينِها المَكَان  ... أَينَ أَنتَ مِنْ مُجَلْجِلَةٍ تَنْفُثُ سُمُومَ الأَلَمِ وشَظَايَا الوَهْمِ بَيْنَ خَلاَيَا تَيَبّسَتْ مِنَ العَضِّ والنّهْبِ وسَيْلِ الأَحْزاَن".
أَمْسَكَ بلُهَاثِ أَنفَاسِهِ المَسحُولَةِ وتَقَوْقَعَ أَكْثَرَ فَأكْثَرَ دَاخِلَ عبَاءَة خَوفِهِ، وصَبَّ جَامَ غَيظِهِ فِي شَرارَةِ أَحْدَاقِهِ " أَيُّهَا اللَّعِينُ أَتَدْعُو عَلَيّ بمَرَضٍ عُضَال".؟ ومَا كَادَ يَسْكُبُ غَيْظَهُ حَتّى تَقدَّمَ نَحْوَهُ بِضْعَ خَطَوَاتٍ وجَثَمَ عَلَيْهِ بِسَعِيرِ نَبْرَتِهِ الحَانِقَة:
- " سَأَهْتِكُ سِتْرَكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة الغَبْرَاء... عَنْ أَيِّ مَرَضٍ عُضَالٍ تَتحَدَّث؟؟؟ سَقِيمَ الفِكْرِ كُنْتَ، يَلُفُّكَ الخَوَاءُ ويَسْكُنُ رُوحَكَ العَطِنَةَ العَرَاءُ. سَأُلْقِمُكَ نَقِيعَ الأَسَى وسَيْلاً مِنَ الوَجَعِ، حَتّى يَنْزَعَ القَهْرُ حِجَابَ أَلَمِكَ الزّائِفِ، وتَتَكَشَّفَ رُوحُكَ المُنْطَوِيَةُ عَلَى ذَاتِكَ، عَلْقَمًا لِلوَجَعِ الدَّفِينِ".
امْتَقَع لَونُهُ وانْسَلَّ لُهَاثَهَ.. أَحَسَّ بجَفَافٍ يُعَاقِرُ مَنَافِذَ حَلْقِهِ..غَابَ صَدَى صَوتِهِ بَينَ تَلاَفِيفِ الوَجَعِ، ودَكَّ البَرْدُ عِظامَهُ المُنْسَحِقَةِ بَينَ تَلابِيبِ صَاحِبِ الوِشَاحِ الأَحْمَر.... نُصِبَتْ أَمامَ أَحْدَاقِهِ ظِــلاَلُ المَشــانِقِ، والتَفَّ الوِشاحُ حَولَ عُنُقِهِ المُنْدَقِّ، والصّوتُ المُرْعِدُ كَضَرْبِ القَنَا فِي سَاحَةِ الوَغَى يُرَدِّدُ عَلَى مَسَامِعِهِ:
- " تَأَمَّل جَيّدًا، هَذِهِ إحْدَى مَراسِمِ الوَجَعِ الكَامِنَةِ فِي الأَعْمَاقِ، تُحَاوِلُ جَاهِدَةً أَنْ تُشَرِّعَ اهْتِرَاءَ أفْيَاءِ نَوَامِيسَ مَبْتُورَةٍ عَلَى كَومَةِ أَحْدَاقٍ سَمِلَتْها أَيَادٍ نَجِسَةٍ. وأَضْحَتْ دَيْنًا مُرَابطا فِي الأَعْنَاق والصّامِتُ عَلَى الرّيَاءِ وَجَبَ بَتْرُ لِسَانِهِ مِنَ الأشْدَاق...  
هَذِه نَبْذَةُ مِنْ شُوّاظِ وَجَعٍ مُمْتَدّةٌ عَبْرَ الأَصْقَاعِ تَسْتَنْبِتُ القَهْرَ بَيْنَ الضُّلُوعِ والأَرْحَامِ".
جَمَدَ فِي مَكَانِهِ.. ظَلَّ مُسَمَّرًا يَرْقبُ ظِلاَلَ المَشانِقِ، لَمْ يُسْعِفهُ فِكْرُهُ المُتَلَبِّدِ بالوَجَعِ عَنْ إدْرَاكِ لَسَعَاتِ صَاحِبِ الوِشَاحِ. ومَعَ اشْتِدَادِ أَوَارِ أَلمَــــه أَحَسَّ بِغُلَّةٍ دَفِينَةٍ تَعْتَنِقُ شَظَايَا رُوحِهِ، وبِأَنْفَاسِ الهَلاَكِ تَفْتَرِشُ أَدِيمَهُ. نَاشَدَ رَبَّهُ " أَمَا مِنْ سَبِيلٍ يَشْفِي غُلَّتِي مِنْ هَذا اللَّئِيمِ المُتَرَبِّص، فِي عُرُوقِي".
 أَمْسَكَ بِأَطْـرَافِ الوِشَـاحِ وعَلَى حِينِ غِرَّةٍ، مَسَـحَ بِهِ وَهْجَ مَـاءٍ مُنْفَلِتٍ مِنْ عُصَارَةِ حَوضِـهِ، ومَا كَادَ طَعْمُ النَّصْرِ يَرْتَسِمُ فِي أَحْدَاقِهِ بَعْدَ أَنْ نَالَ مِنْهُ، حَتَّى انْقَضَّ عَلَيهِ صَاحِبَ الوِشَاحِ الأَحْمَرِ كَكَاسِرٍ هَجَرَتْهُ البَرَارِي ولَمْ يَذُقْ طَعْمَ الزَّادِ مُنْذُ أَمَدٍ بَعيدٍ. وأَضْحَى المَكْلُومُ يَتَلَوَّى كَغُصْنٍ مَبْتُورٍ فِي مَهَبِّ رِيَاحٍ هَوْجَاءَ عَصَفَتْ بِهِ بَينَ أَرْجَاءِ دَهْرٍ أَخْرَقَ.
رَمَقَهُ بِنَظْرَةٍ شَزْرَاءَ وأَطْلَقَ زَفْرَةً سَكَنَتْ زَوَايَا العَرَاء:
-" سَماؤُكَ مُكْفَهرّةٌ يَا وَلَدِي، لَنْ تُبْصِرَ سَمْتَ الفَرَجِ والشِّفَاءِ. مَا كُنْتُ أَرُوم أَنْ تُغَادِرَكَ الأَسْقَامُ، وأَبَيْتَ أَنْ يَطْمُرَ الرَّغَامُ قِصَرَ نَظَرِكَ وخَوَاءَ فِكْرِكَ. سَأَتْرُكُكَ فَرِيسَةً سَائِغَةً للآَلاَمِ تُذِيقُكَ زَمْهَرِيرَ العَـذَابِ، وأَنْـوَاءِ الوَجَعِ المَرِير،ِ وتُطْعِمُكَ حَنْظَلَ التُّرَاب".
أَدْرَكَ أَنَّ هَلاَكَهُ لا مَنَاصَ مِنْهُ. وعَلَى صَرِيرِ الوَجَعِ أَسْدَلَتْ جُفُونَهُ ظِلاَلُ الوَسَن.
 وبَعْدَ لَأْيٍ ومَشَقَّةٍ. اسْتَشْعَرَ بَرْدًا يَكْتَنِفُ جَمِيعَ كَاهِلِهِ المَفْزُوعِ وانْقَطَعَتْ أَنْفَاسُهُ اللاّهِثَةُ، غَصَّتْ حَنْجَرَتُهُ فَانْتَفَضَ كَطَيْرٍ ذَبِيحٍ، وانْتَابَتْهُ مَوْجَةَ سُعَالٍ أَفْرَغَتْ مَا عَلِقَ فِي جَوفِ حَلْقِهِ مِنْ حَشَائِشَ وَضَعَهَا كَضَمِيدَةٍ لامْتِصَاصِ الوَجَعِ لَفَّهَا البَارِحَة عَلَى فَكَّيْهِ عَلَى الضّرسِ العَنِيد.
وبَعْدَ سَكِينَةٍ مَمْزُوجَةٍ بالدّهشَةِ والزّفَرَاتِ، لَعِنَ الضّرسَ آَلاَفَ المَرّاتِ لِمَا حَاقَ بِهِ مِنْ أَلْوانٍ مُشَكّلَةٍ مِنْ مَرَارَةِ الوَجَعِ ومِنْ هَالَةٍ تَضَجُّ بمَرَايَا الفَزَع.
فِي الهَزِيعِ الأَخِيرِ تَنَاهَتْ لِسَمْعِهِ نَغَمَاتٌ مُنْسَابَةٌ مِنْ مُنَبِّهٍ حِذْوَهُ، و"جَارَةُ القَمَر"(1) تَبْعَثُ دَفَقَات الدّفْءِ والنّورِ فَيَسْري بَينَ أَوْصَالِهِ دَبِيبُ فَجْرِ الصّبَاحِ ونَسَائِمُ الفَلاَحِ " يِسْعِدْ صَبَاحَكْ يَا حِلُو"(2).
- مِنْ أَينَ لِي بِالسَّعْدِ أَيّتُها القَابِعَةُ بَينَ ضِفَاف الرُّوحِ وهَذَا الضَّرسُ العَاقُّ لاَ يَفْتَأُ يَزْرَعُ بُذُورَ الوَجَعِ فِي الصَّحْوِ ووَضَحِ النّهَار.. وفِي غَفْوَةِ الرّوحِ يُثْقِلُنِي بِسَيْلٍ مِنْ أَلْوَانِ الكَوَابِيسِ المُتْرَعَةِ بِالفَزَع.
سَارَعَ لاحْتِسَاءِ قَهْوَتِهِ وجَارَةُ كُلِّ الأَوقَاتِ لَدَيْهِ تُرَطِّبُ بَقَايَا دَهْشَةٍ عَالِقَةٍ بَينَ مَلاَمِحِهِ، ولاَ تَكَادَ تُرَاوِدُ فِكْرَهُ لَحْظَةَ انْقِضَاضِ الضِّرْسِ عَلَى كَاهِلِهِ المُتْعَبِ حَتَّى تَرْتَعِدَ رَغْـوَة فِنْجَانِهِ بَيْنَ يَدَيْـهِ ويَبْتَسِمُ قَهْرًا " قَرِيبًا سَألْفُظُكَ كَالنَّوَاةِ ".
حَانَ مَوعِدُ انْصِرَافِهِ... وَلَجَ إلَى غُرْفَتِهِ مُسْرِعًا لِقَضَاءِ شَأْنَ رَبِّهِ، وليَحْمَدَ رَحْمَتَهُ الوَاسِعَةَ عَلَى مُهَادَنَةِ الوَجَعِ هَذَا الصّبَاح. أَمْسَكَ بِتَمِيمَةِ الحَمْدِ وفَكِّ الكَرَبِ، وأَلْقَى نَظْرَةً عَمِيقَةً ومُتَأنَّيَةً حَدَّ رُسُوخِهَا بَينَ نَسِيجِ الخَلاَيَا، والْتَقَطَ سُبْحَةً وَشَّى بِهَا مِعْصَمَهُ كَالعَادَة: " لَنْ يَفْتَأَ فَمِـي اليَومَ عَنْ تَكْرَارِ الدُّعَاءِ كَيْ لاَ يُعَاوِدَنِي عَصْفُ الوَجِيعَةِ هَذَا المَسَاء".
عَانَقَ تَبَاشِيرَ الصَّبَاحِ واسْتَعَانَ بِرَبِّ الفَلاَحِ وانْطَلَقَ فِي عَجَلٍ. ومَـا إِنْ دَلَفَ نَحْوَ بَابِ بَيْتِهِ حَتَّى صَدَحَ صَوتُهُ بِتَرَاتِيلِ جَارَةِ القَمَر" يِسْعِدْ صَبَــاحَكْ يـَـا حِلُو".
...انتهــــــــــت         
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- جارة القمر: السيّدة " فيروز ".
(2)- يسعد صباحك يا حلو: أغنية للسيدة " فيروز ".

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


يسر فوزي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/02/23



كتابة تعليق لموضوع : شهقة الوجع
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net