تقف على أطلال الوهم ...ترسل بأحزانها إلى أعماق المطر فتشكل حباته على جدار العمر نقوشا تختفي كلما لاحت الشمس بدفئها...لم تتعود على قراءة الجرائد باستمرار لكن ذلك القدر يصر، إصرار الذاكرة على شلخ جزءمن الماضي وجعله أحداثا تتسارع بمخيلتها ما يشبه إرجاع شريط فيلم قديم ، لاتزال مشاهده تتربص بها كقطاع طرق يسعون لسرقة لحظة مستقبلية بعيدا عن شبح الواقع...قبل الدخول إلى المدرج لإلقاء محاضرتها يناديها مقعد من حجر كان يجلس عليه وكان قلبها يناصفه الجلوس،كيف خدعتها نظراته لقد كانت تشبه شعاعا فيزيائيا له القدرة الخارقة التي ترحل بك من عالم حقيقي إلى عالم من الأحلام الزمردية... صفحة جريدة فقط لديها القدرة على استفزاز الذاكرة...إعلان لمسابقة الماجستير يغير القدر ليجعلها بعد مرور سنوات أستاذة جامعية،بجامعة كانت مجرد طالبة فيها تعارك الامتحانات ، وتتحدى صعوبات الغربة وتعيش قصة حب مع سيدها الوهم...والآن تعانق ذكرياتها وتستعيد طعم لذة تذوق مرارة الماضي الذي يذوب في مخيلتها ذوبان الثلوج السمراء على حافة جبل أعزل ..."فاطمة" يأتي صوت من بعيد يسحبها سحبا من نشوة الهذيان"مبروك عليك الماجستير"...إنه صوت صديقة قديمة...صوت يأتي من الماضي.. .
فاطمة: كيف حالك مريم؟
مريم:بخير وأنت؟
فاطمة:الحمد لله
مريم: هل تزوجت يافاطمة بمن كنت تنتظرين
فاطمة: لقد تزوجت سرابا يا مريم...لم يكن إلا سرابا...وترسل بزفرة أخذتها كزوبعة زمنية إلى السنوات الأولى من الجامعة، بحيث كان جمالها سيد الموقف وأناقتها التي حجبتها بلباس محترم وفاءا له...وإسكاتا لغضبه الذي تخيلته...كانت تقرأ في نظراته الغيرة فتسارع إلى غرفتها وتخفي جمالها...انتظرت رجوعه بعد تركه لمقاعد الجامعة كثيرا ... لطالما تعبت نظراتها وهي ملتصقة بباب الجامعة لعلها تلمح طيفه...عندها أملا أن يرجع إليها ، أن يصلها صدى غرامها المسجون في دائرة الصّمت... كم صفعت ركبتيها مرارا عقابا لها ولخجلها لأنها لم تصارحه قبل الرحيل الذي اختاره دون وداع، هو أيضا لم يتحدث أخجلا منه.. .
تعبت واستسلمت أفكاري لفكرة انه قد ينسى...ينسى ماذا...ينساني...إني ذاته التي تقاسمه الهواء وروحه التي تعطيه الحياة...لا تقولي كل هذه أضغاث أحلام...لا تكذبي أحاسيسي فإحساس الأنثى كقرون الاستشعار ، سابحة أنا في بحر من هيام حتى الثمالة...سكرانة أنا بخمرة اللقاء ، سيعود يوما ستأتي به أشواقي ...لقد اقتربت حفلة التخرج، متأكدة أنه سيأتي ، ذلك الشاب الوسيم من عشقت ملامحه وقامته أخلاقه هيبته لقد كان مميزا بعد التخرج حاولت العمل معه لكني لم أفلح ووصلتني أخبار انه يعمل كموظف في شركة
لا عيب أن أقاسمه مكان العمل، لطالما قاسمته مقاعد الدراسة بأطوارها لقد كان لي ظل يتبعني... وتجسدت في مخيلتي تصرفاته نظراته كلامه كقصائد شعر متألق عذب كمياه نهر لاتنضب ،ايقضيني من سبات الونى ... رشي على صدى الكرى شيء من السحر كي يغفو أكثر حاوريني بلغة العقلاء واصفعي سذاجتي... لا تتركيني أحيا تحت الثرى ...لقد رفضت جيشا من الخطاب ... لقد أقنعت نفسي إن فعلت تكون خيانة،وتفجر أساها المكبوت ... الأشجار تعانق السماء عناق الأبدية ... زهور الفل تنتظر الربيع بلهفة القفار لرذاذ المطر .. قلبي ينتظر أملا منسوج بخيوط العنكبوت ليستر ضياعه الأحمق ... دموعي أرامل ثكلى ... من يفتح له ذراع الأمان عندما يعود...الليل هجرني والمغيب أقلقه بكائي الحزين...ترتجف تحت ملابسها وتتخبط كسمكة ودعت آخر قطرات الماء ... إنها تصطاد أوهاما...اغضبي يا سنين الصّبا...ويصرخ الجرح صراخ الأنين...لقد تزوج يامريم... تزوج بابنة عمه الذي بادلها المشاعر بعد قصة حب طويلة كل تلك النظرات وهم وكل ذلك الانتظار غرس في أرض من سعير وثمر زقوم ...أسعفيني بقطرة ماء ,تنعش روحي العطشى التي ارتوت من نهر سراب...سمعت بخبر زواجه من إحدى قريباته وأنا في المستشفى أرمم ما أفسدته السنين وأعالج داء الاكتئاب الذي شربت آثامه وعلمني النوى على طريقة المجانين ... جلست ذلك اليوم على كومة من خشب لأحترق بشمسه الكاذبة لقد خدعني ... لكن لم يعدني بشيء ولا أذكر أنه كلمني قط في حياته... أحبني وكابر على الجرح... إني أعرفه جيدا إنه يمارس ارتجاليته العقيم على عبراتي البيضاء ويثبت لنفسه انه أكبر من الجرح...لم تكن وهما سيدي... أنت قصة الحب الكبير وأنت خنقته لتكون دائما البطل... أنا الآن فارس فقد فرسه وأحلامه تلاعبها الصَبا وذرات تراب رمال الصحراء تستغيث من سرا ب علمها المراوغة ... واأسفاه على عمري الذي ضيعته بانتظار هيكل إنسان حاورته السنين بلغة الأموات...وتعود نغمة الأحلام وأتمنى أن ترسل ليالي الشتاء الباردة نسمة حنين وترجع الأيام التي مضت وتعلمني فنون الصراخ في آذان القلوب الجامدة وأسمعه ألحاني وأمسك بطرفي ذاكرته وألعب بها كحبل أشده تارة بقلب رؤوف وتارة أخرى بقلب بليد ...إني أحسد أصحاب القلوب القاسية...ولن تترك أصابعي ذلك الحبل... ولن أنسى نظراته الذليلتين حين يترجاني أن أخلع يدي من أحد أطراف فؤاده لأني ذاكرته...أحلامه الصغيرة ...أمنياته التي غنت مع الربيع والشمس تصطع بغرور...إني جزء من ذاته ستقوده حتما قدماه يوما إلى مدينتي وإن صلى المشيب على ركبتيه وإن لعبت السنون بتجاعيد يديه...سيعود به الحنين ، فلن يجد في الدنيا قبرا يأويه سوى قلبي المفتوح كباب مسجد لا تحلو الصلاة فيه إلا في سكينة الروح...وعندئذ ستمتلئ شرايينه بأغنية الحب العتيق...ويقول : هيا..هبا نعود فإني مللت حياة العقلاء التي تبدو كأفعى مرتمية باردة ...تنتظر الصباح لتنهي وجع الملل وسيقبل الفجر ويستقبل أغنيات اللقاء...تجر نفسها وتجر أذيال الخيبة وتتوسل لقدميها بدخول المدرج الذي يجمع أشلاء ذاكرتها وتستسلم لصوت أنشودة قديمة عذبة علمتها الاستمرار في الحياة...وتلقي السلام على طلابها فتلمح من بعيد طيف مخلوق غريب يجلس المقاعد الأخيرة ...وخيال نظرة تركت قبلة على فؤادها قبل الرحيل ...وجملة رددتها كثيرا على الذاكرة شكرا سيدي الوهم
وتتصاعد من جوف أفكارها زفرة تناشد أملا ما بالعودة...وكانت نظرات ذلك الشاب الكهل تشبه قطرات الندى المتعبة جدا وهي تصافح زهور القرنفل الذابلة مصافحة السيد لعبده الذليل.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat