أصبحتُ اليومَ وأنا طريح فراش المرض, ضجيع قرين التعب, أشعرُ وكأنَّ سكاكينَ تقطعُ أحشائي, وأحسُّ وكأنَّ يداً تلوي مصاريني, فعلمتُ أنَّها الكِلى وقد عادت بعد غيبة, وآبتْ بعد ذهاب, فتمثلتُ بقول بشَّار وإن كان ما يريده غير ما أرومه:-
ولي كبِدٌ مقروحةٌ من يبيعني *** بها كَبِداً ليستْ بذات قروحِ
أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترونها *** ومن يشتري ذا علَّةٍ بصحيح؟
فما زلتُ معجباً بقوله الذي أخرجه مخرج المثل (ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح) وخيرُ القولِ ما كان مثلا.
ثم عادت بي الذاكرةُ إلى سنين خلت, وعهودٍ مضت, أيام ميعة الصِبا, وشرخ الشباب قبل خمسٍ وعشرين عاما, يوم كنتُ أقرأ قوافي الشعر قراءة متيَّم, وأحفظُ أبياته حفظَ مولَّه, وكنتُ جمَّاعةً لداوين الشعر, متتبعاً لتراجم الشعراء, فاشتريتُ طبقات الشعراء لابن قتيبة بتحقيق محمد محمود شاكر, وكيف أن الدكتور علي جواد الطاهر نشر نقداً عليه, لم يكن فيه منصفا فيما نشر, وصادقاً فيما ذكر, وكيف ألقمه محمودٌ - بردِّهِ عليه - حجراً غير محمود.
ثم لم أزلْ أتذكرُ كيف تتبع عليه أحمد صقر عوارته فكشفَ كثيراً من عواره,وقصَّ أثرهُ في التحقيق,وكتب فيه ماهو الحقيق,حتى أذعن الشيخ شاكر لما قال, واعترف له بصواب المقال.
وأتذكرُ كيف اشتريتُ موسوعة الأغاني طبعة بيروت بتحقيق عبد الامير مهنا وآخر بثلاثةٍ وثمانين دينارا, وقرأتُ على الورقة الأولى منها تمليكاً للدكتور الفنان (مغنٍ) فاضل عواد, ففرحتُ لذلك فرحاً عظيما – وكان ذلك أواخر الثمانينيات – وقلتُ في نفسي هذا الرجلُ مغنٍ مشهور,أدَّخرُ هذه الدورة ليوم حاجة فأبيعها بأضعاف ثمنها كما تُباع لوحات المشهورين مثل بيكاسو وفان كوخ وأشتري بثمنها مكتبةً كاملةً!
كم كنتُ ساذجاً حينها وبسيط التفكير يوم بعتُ الدورة لما جار عليَّ كرُّ الجديدين ودارت عليَّ طوارق الحدثان بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة,فلم يُعلي ثمنها عنوان الأغاني, ولا اسم المغنّي.
كنتُ أدمن حبَّ الشعر, أقضي جلَّ وقتي في قراءته, وكوَّنتُ فيه رأياً لا أدري اليوم صدقه من كذبه, ولا أعلم حقيقته من زيفه, فأراني معجباً ببشارٍ أشدَّ الإعجاب ,خصوصاً قوله في الفخر
إذا ماغضبنا غضبةً مضريةً *** هتكنا حجاب الشمس أو أمطرت دما
فجعل للشمس حجاباً يُهتك, وللسماء دما يمطر, ثم تعال واعجب لتشبيهه العجيب (كأنَّ مثارَ النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه)
وكنتُ تأثرتُ به كثيراً فكتبتُ قصيدةً طويلةً أمدح فيها الجيش العراقي وهو يتصدَّى للأمريكان منها (لنا المدفعُ الجبَّارُ شعَّ لهيبُهُ *** قنابرُهُ ليلٌ تضيءُ كواكبهُ) سذاجةٌ في السياسة وفي الشعر.
========================
وكذلك يعجبني قولُه في ترويض النفس على الصبر
إذا أنتَ لم تشربْ مَراراً على القذى ** ظمأتَ, وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه؟
وهو يجري مجرى المثل كما في قول أبي نؤاسٍ الرائع
(لا أذود الطيرَ عن شجرٍ *** قد بلوتُ المرَّ من ثمره)
منتهى حيلة العاجز الذي يريد أن ينتقم, ولكن يده قاصرة عن الانتقام فهو لا يستطيع قطع الشجرة, وغاية قوته أن لا يطرد الطير الذي يعاقبها بأكل ثمارها, وهو منتهى العجز, أن يكون من القوة لمنقار الطير على ضعفه, ما ليس ليد الإنسان على قوته!
وأبو نؤاسٍ له من طرافة الشعر ما يضحكك ويؤنسك حقا, وقصيدته في تحديه الشيطان بتلاوة القران ومدارسته, والصلاة والحج إذا لم يأتِ بحبيبه من ألطف القصائد وأروعها, وقد أذعن الشيطانُ لتهديده فجاء بحبيبه في أبهى صورة.
وقد اشتهر بخمرياته ولا سيما قصيدته التي مطلعها
(ألا فاسقني خمراً وقُل لي هي الخمرُ *** ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهرُ)
والذي اعتقده أن أبا نؤاس ليس أشعر من الأعشى الذي اشتهر بوصف الخمر أيضاً,وعن قوله (وأخرى تداويتُ منها بها) أخذ حين قال وأحسن (وداوني بالتي كانت هي الدَّاء) .
غايتُهُ أنَّ الأعشى لم يعش حياة الترف في قصور بغداد كما عاش ذو الذؤابتين, بل كان في صحراء نجد, بين أجلاف الصحراء, وجدب الطبيعة,فقصورُه عن أبي نؤاسٍ - لو كان - هو قصور ثقافةٍ واطلاعٍ لاقصور شاعريةٍ وبيان.
وكان أبو نؤاسٍ حداثويَّ عصره, وإن شئتَ قلتَ (سيَّاب بغداد) في تمرّده على القديم من أغراض الشعر, وتنمّره على الصورة الطللية فيه, فهو يقول مستهزئاً, ويعترضُ متهكما :-
قُلْ لمن يبكي على طلٍّ درَسْ *** باكياً ما ضرَّ لو كان جلسْ؟
ردَّاً على أبي أبيات الشعر العربي في القصيدة الأمّ
(قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ...).
فهو عقوقُ الأبناء للآباء, ولكنه عقوقٌ غير محمود,أضيعت فيه حقوق.
قبل أيامٍ كان بين يدي برنامجٍ إذاعيٍّ لتشكيلِه, وكان من بين فِقْراته شعرٌ لم أفهم معانيه, قلَّبته رأساً على عقب,وصعَّدتُ نظري وصوَّبتُه فيه,فلم أفهم منه شيئاً,فاضطررتُ لحذف بعض أبياته التي لا عذر ينفع معها من قبيل المعنى في قلب الشاعر, عبارةٌ لا يقولها سوى رجلين,
من لا يدري ما يكتب,
ومن لايعرف ما يقرأ,
يحيران فيهما فيعلِّلان حيرتهما بالمعنى الذي في القلب, ولا يدريان أن القلبَ خليٌّ من المعنى.
حمدتُ لأبي الحسن حداثته التي انطلقتْ من بيئتها العربية,فكانت عربية اللغة واللسان, وكرهتُ لهؤلاءِ حداثتهم التي جاءوا بها من غير بيئة, فعشَّشت هنا وباضت,وفقَّسَتْ وفرَّختْ هجيناً من الثقافة الشعرية ضلَّتْ طريقها في التيه اللغويّ!
إنَّ في الثقافة ضلالاً كما في العقيدة,
وشرُّ ضلالات النَّاس ضلالةُ قلمٍ ويُراع,
وفي ضلالة القلم تضيعُ أُمم,
وفيها يهودُ شعرٍ تاهوا في صحراء المعنى كما تاه قومُ موسى في زمن موسى,
يحتاجون إلى نبيٍّ يُكسّرُ أصنامهم الذوقية التي لا تغني ولا تنفع, يأتيهم بقرانٍ من البلاغة جديد, فيه آياتٌ بيّناتٌ من الصور الشعرية, تسجدُ نواصيّ أقلامهم في محراب كلماته, وتهطع رؤوس سطورهم في محضر حروفه,لتعود الثقافة العربية الى بيتها معززةً مكرَّمة كما كانت أول مرة, ويعود فيها الهجين غريبا,كما جاء غريبا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat