حدثت في احدى القرى العراقية القديمة عملية سرقة للابقار والاغنام من احد البيوت المعروفة هناك, وقد كانت سابقة لم تعهدها المنطقة من قبل, فماكان فجر اليوم الثاني يسفرعن صبحه حتى بدأت تتعالى اصوات اهل البيت المسروق فيما بينهم ,واخذت افواج المزارعين المتأهبين للخروج لقضاء اعمالهم بالتقاطر باتجاه مصدرالصوت القادم من جهة بيت الحاج كاظم ,كادت الصدمة ان تؤدّي بحياة رب الاسرة الذي ذهل من هول المصيبة ولم يقدر الوقوف على قدميه , فاللصوص لم يتركوا اي شئ.
جلس الرجل القرفصاء امام بيته وهو ينفث دخان سجارته بغضب ويحدق في الظلام الذي مازال يحتضن القرية وبيوتاتها الطينية المتباعدة, في تلك الاثناء كان ابناءه يقفون صامتين امام حزن ابيهم وهم يشتاطون غيضاَ من هذه الحادثة التي يعتبرها الكثيرون بالمعيبة بحق عائلة تضم الرجال الاشداء !! انتشر الخبر في ارجاء القرية بسرعة لاتصدق واخذ الناس يجتمعون حول المكان تباعاً تجللهم سطوة الصمت المطبق, خلا بعض الزفرات والهمهمات المكتومة مشفوعة بالحوقلة والاسترجاع.
اتخذ احد وجهاء القرية مكان للجلوس بالقرب من حجي كاظم ململماً اطراف عباءته في حجره ليبتدأ الكلام بنبرة جدية واضحة , حاول من خلالها اخراج الحجي من صمته وحيرته الحارقة..
ـ ابو جواد .. شنو القصة بويه .... شنو هذا السمعناه . قال هذا وهو يلوّح بيده كمن يرسم كلماته في الهواء ويلفت انتباه ابو جواد لوجوده في الوقت ذاته!
ـ السمعته ياأبو حسن .. الحرامية هجموا بيتي... ماخلو على حالي حال.. اخذوا كلشي وياهم . قال ذلك وعاد لصمته وهو يشعل سجارته الثانية بعقب الاولى.
ـ جا وانتم وين جنتو .... شنو نايمين لو ميتين !! سقطت الكلمات الاخير على قلب وسمع الحاج كاظم كجمرات حارقة, رمق محدثه بنظرة غضب سريعة, ثم اطرق براسه من جديد... وما ان افتتح هذا الوجيه الحديث حتى انفلتت شهية الرجال الاخرين من عقالها, باطلاق العبارات الجارحة والملتهبة وتذكر بعض الحاضرون مشاكلهم القديمة مع بيت الحجي ليجدوا من هذه المناسبة الثمينة مبرراً للتنفيس عن مقتهم وحقدهم ... قال احدهم
ـ هسه واحد هم مايكَدر يحجي بهاي المصيبة , بس تريدون الصدكَـ ..صوجكم عمي ... ايه نعم صوجكم , بيت حجي ضيدان ولدهم اينطرون الليل كله على حلالهم , وبيت ابو كاطع يتبادلون الانطاره وتفكَهم على اجتافهم , وبيت ابو .... فقاطعه اخر ليقول ببرود بغيض وسخرية مضمرة.
ـ انوب ياعمي حايطكم ناصي وماحاطين شرك عليه, اكيد الحرامية ايحولون عليكم!! وفوكَه ماحاطين لا جرس ولا صخام باركَاب الهوش ... هو هذا حجي!!
واشترك رجل ثالث من السفهاء في هذا الحوار البغيض والغير مجدي ليضيف ..
ـ اي جا صدكَـ عمي.... الوادم اتحامي على حلاله وانتم مادري شني ماشني!! نايمين نومة اهل الكهف..... والله ... يالله , قال ذلك وهو يهز براسه كهرِ ممتلئ لتتحرك ذوائب كوفيته كجدائل طفلة بلهاء... فصرخ ابن الحجي الصغير بصوت متهدج ...وهو يجرك كفه امام وجوه القوم.
ـ شنو السالفة .... انتم جايين تلومونه لو تواسونه شنو هذا الحجي... بعدين تعالو اكلكم هو الحرامي شلون وصل بيتنه من دون بيوت السلف كله .... ومنو دللاه.. هذا اكيد واحد من السلف ورجه علينه... وهنا تدخل جواد , الابن الاكبر للحجي ليقول لاخيه الاصغر.
ـ اسكت عمي اسكت شلك بهاي السالفة .. المصيبة مصيبتنه واحنه نتحمله.....لاتظل اتشمر بالحجي بدون وعي... الوادم ياهي مالتهه.
لم يكن يدرك او يتصور الحاج كاظم مقدار الضغينة والكراهية التي تعتمر بها قلوب الجيران واهل قريته الطيبين, الا بعد سماعه اقوالهم وتعليقاتهم التي لاتنم عن رجولة او شهامة في موقف أليم كهذا , تجاه اخوهم وابن قريتهم , ففضل الاستمرار بالصمت .... متفحصاً بين الحين والاخر وجوه القوم وهم يلقون بحممهم البركانية البغيضة وكلماتهم القاسية .. فختلطت الاصوات في خيال الحجي ولم يعد يسمع الا كلمات متضاربة وسط الضجيج والصياح المتزايد فالكل يريد ان يُلقي برايه كالاخرين حتى لو كان تافهاً لايغني عن الحق شيئا... كأنه سباق محموم بين رجال القرية للنيل من بيت الحاج وهيبة اهله...... نظر الحجي وهو يجول ببصره بين الناس الى ابناءه الثلاثة وهم ينظرون بدورهم الى عينيه في انتظار اي اشارة منه , للقيام باي عمل يريد ... وكأنهم يقولون .. نحن فداء لعينيك ياأبانا ... ورهن اشارتك فلا تغتم ولاتحزن ..... فأستعاد الحاج كاظم بعض من توازنه بعد هذه النظرة التي اعادة له الثقة برصيده في الحياة ....هؤلاء الذين يقفون كالاسود المتأهبه للانقضاض هم ابناءه وجداره المتين وقوته التي سيقهر بها مصاعب الحياة ونوازلها مهما كثرت وتكالبت عليه.
عاد مرة اخرى ابو حسن لحسم النزاع والآراء المتضاربة ليقول
ـ هسه الصار صار ومابدينه شي انسويه, بس رحمة الله, ماكو غير اتروحون للمركز وتسوون دعوة.... واليوم بالليل نكعد بمضيف الـ....فاشار اليه الحاج بيده ليسكت .. ثم اردف
ـ مثل ماكَال جواد هاي مصيبتنه واحنه اهلهه ,وهذا الي الله كَدركم عليه!!... , حايطنه انصيص... وماناطرين حلالنه.... ونايمين على أذانه...وماحاطين جرس بركَاب الهوش والصخول... حجيكم صدكَـ ماعليكم زود بويه , بس آني اريد اسألكم عن الحراميه ... الي اجو وباكو وشردو..شنو مابيهم صوج ؟ شو محد منكم جاب طاريهم؟!!
خيم الوجوم على الجميع , ولم يجد القوم مايردون به عليه... فتأبط الحاج ولديه الكبيرين يتبعهم ابنه الثالث وهموا بدخول البيت بعد ان رمق القوم بنظرة حادة .. بدأت على أثرها اسراب الغربان المنتشرة تغادر الفضاء تباعاً ... وكلمات الحاج كاظم الواثقة والصارمة تتردد اصدائها في المكان.
20.11.2011
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat