وقفت فتاة بالقرب من بركة المياه فشاهدها رجل مسن وقال لها : ماذا تفعلين هنا الجو بارداً ؟
قالت له : الداء يثلج راحتي ويطفئ الغد في خيالي ويشل أنفاسي . فتهتز الرئتين ومن ثم يرقص بينهما شبح الزوال وهما مشدودتان الى ظلام قبر من الدم والسعال.
فلا تقلق أنا جلدي لا يخشى البرد فقد جفت روحي كما يجف ندى الصباح . والزمان لوى ذراعي وكسر لي الجناح .
فأنا اليوم أقف على هذه البركة لأغني لحن الموت . فقد ماتت روحي وصبغت بالدماء . وخرس لساني فلا يتكلم ولا يحدث صوت .
أندهش الرجل المسن وقال : ماذا دهاك يا ابنتي ؟ إذا كان الماضي مؤلم فالقادم أجمل . ودعي الماضي لأنه رحل كما ترحل الطيور المهاجرة لأبعد مكان .
وأنا أجد بعض العبارات التي اطلقتيها كانت للشاعر بدر شاكر السياب . أليس كذلك ؟ و لربما قصيدة رئة تتمزق .
أسرت هذه الكلمات قلب الفتاة وكأن الهوى يشع في ناظريها وقالت :
أنا اليوم في الشتاء ولن انتظر الربيع حتى يأتي , فإن صدري لن يرتاح فقد غزوته عاصفة الرياح وانحل كالظل الهزيل . وإنزال الامل بشيء أسمه مزيل . أحدث في قلبي الزلزال . وكل حلم لي والفرح قد إنزال .
فلا تحدثني عن الطيور المهاجرة .. فأنا أعلم ما معنى كلمة الطير ؟ فالطير يطير ويحلق في كل مكان وأنا قلبي لا يستطيع أن يطير . فقد انلوى وأمسى مكسور الجناح .
وبعد أن انتهت من حديثها أرادت القفز الى البركة المتجمدة بالثلج و سرعان ما حققت هذه الفكرة التى دارت ببالها و قفزت . وألقت بذكرياتها في البركة لتكون ستاراً من الأدمع الراجفة . فتجمدت دمعتها وبردت كما تبرد العاصفة . وضاع عطرها وأنحل شعرها وبدأ يتغلغل في اعماق البركة . والمسكينة لا تستطيع العوم لذلك لم يتمكن الرجل المسن من تمالك نفسه وسرعان ما قفز بالبركة ورغم انه لا يستطيع السباحة لكنه قفز . فتجمدت يداه وقدماه وسط الضباب الثقيل ورغم شدة البرد أستطاع مسك يدها . وسحبها بصعوبة جداً فقد كان وزنها ثقيل جداً , لأنها بدت كالجثة الهامدة ويداها جامدة و لم يستطيع حملها ولكنه مسك قدميها فانحنى ظهره المقوس . رغم ما حدث تابع عملية إنقاذها ووضعها على جليد الثلج الغير منكسر. وبدأ يحاول ايقاظها . فاستيقظت وبدأت تقول بضع كلمات وهي تهذي :
غرست الورود في حديقتي وطار العصفور بعيداً... كيف يكون قلبي سعيداً ؟ والعصفور قد طار الى عش آخر . وهو الآن يعيش حياته ويحلق بسعادة . وإنا هنا لوحدي لن اغامر بقلبي من جديد فقد تجمدت دموعي وسط البركة المتجمدة .
يا الهي لا أستطيع أن اتخيل إن العصفور يغرد بعيداً ويعيش حياته بعيداً عني . فقد طار وترك بداخلي حزناً منه لا أفيق . وأمست روحي كالسراب بلا رفيق . انا وحيدة من سيهتم بي ويطفئ حزني . الكل تركوني فقد تجمدت عيوني .
فجأة تسارعت دقات قلبها وغاصت في وعيها . ركض الرجل المسن مسرعاً وحملها وهو يقول :
أنقذتك من البركة المتجمدة ووضعتك على الجليد الغير منكسر . والآن سأحملك كي لا ينكسر الجليد بك وتقعي في البركة , فأنني على حافة الهاوية ولن ادعك تقعين مرة اخرى . فإن إنكسرتي كما ينكسر الجليد وانكسر قلبك الرقيق لن تنكسري بعد اليوم . لن اسمح بذلك انا الزمان أتى بي الى هنا لأنقذك .
أنا قدرك سأحملك مع دموعي المتجمدة . سأنقذك فلا يهم ما حصل وما يزال هناك بعض الامل يا صغيرتي.
|