كانت العرب في الجاهلية ترى في الشعر إلهً للثقافة وكان نبوغ شاعر في القبيلة يساوي مجداً لها لايضاهيه مجد وقد قال أحدهم في معلقة عمرو بن كلثوم" ألهت بني تغلبٍ عن كل مكرمةٍ.. قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ" وبعد ذلك جاء عصر الإسلام فقال عمر بن الخطاب " كان الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمٌ غيره" ورغم هذا ظل نموذج المعلقات الجاهلية هو النموذج الأعظم لعصورٍ كثيرة بعد مجيء الإسلام فعندما سئل العتاهية عن سبب خروجه عن العروض قال " سبقت العروض" تأكيداً على الإنتماء للنموذج القديم للشعر وهنا كانت مهمة النقاد التي أصبحت تصحيح هذه النظرة فيقول الجاحظ أهم النقاد في عصره " ما على الناس من شيءٍ أضرّ من قولهم ما ترك الأول للآخر شيئا" وأعاد إنتاج هذه الفكرة أبو عثمان المازني بقوله " لا ينفع المتقدم تقدمه إذا قصّر و لا يضرّ المتأخر تأخره إذا أجاد" ليأتي الشاعر أبو العلاء المعري ويقول تعبيراً عن كل ذلك " و إنّي و إن كنت الأخير زمانه .. لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ".
وكان هذا التعبير صريحاً في لفظه على لسان هؤلاء و أكثر منهم ليأتي تعبيراً فعلياً إستفاد من هذه المقولات والرؤى النقدية على يد أبو تمام وأبو نواس من قبله والبحتري وغيرهم. لكن حالهم في عصرهم كان حال كل محدث وجديد في أي عصر فالتقليديون يعتبرون الضلال فردي والصواب جماعي في كل زمن وفي كل المجالات..
الشيء الوحيد الذي لايجده كل جديد ومحدث في عصره هو الرعاية والاهتمام والانتصار له وهكذا كان الحال عبر التاريخ وهذا شيء قاتل بالطبع لكل صاحب علم أو فن فيموت دائماً مقهوراً وربما منبوذاً أيضاً وفي عصرنا وبرؤية نقدية توجب على كل مجدد وصاحب فن إستغلال هذه الطفرة العظيمة للتكنولوجيا ليتجاوز تلك المشكلة التي عانى منها الكثير عبر التاريخ من المجددين في العلوم والمعارف والفنون وبدلاً من نظرة قاصرة تتمركز حول الذات ومايحيط بها من تهميش الإنفتاح على العالم كله والترويج عبر وسائل التكنولوجيا لما يملكه الفنان وصاحب المعرفة من رؤية جديدة ستضاف حتماً إلى الرصيد التراكمي للمعرفة والفنون البشرية بإختلاف أن صاحب ذلك سيلمس أثر ما يملكه في حياته ولايموت بقهره..
الرؤية هذه ليست بجديدة على الغرب لكن استيعابها لدى العرب لايزال مستعصياً ربما لإنهم لايؤمنون بقدرات بعضهم بل ويعادون بعضهم إلى حد يصبح فيه التشبث بالحياة وماتحتاجه من مأكل ومشرب هو الهم الوحيد الذي يشغلهم. فينسى علمه وفنه دائماً وأحياناً إلى الأبد.