التجربة علم مستأنف ، والحكمة شيء عظيم فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا وكبير من استفاد من تجارب الماضي فاسترشد بها لحاضره وخاسر من لم يعتبر من أمسه في يومه ، وقوى اليسار عريقة بتاريخها في العراق ناضلت وقدمت في نضالها ضحايا كثيرين قتلاً وتعذيباً وتشريداً منذ اربعينيات القرن الماضي حتى اليوم استطاعت قوى اليسار ان تعبأ الجماهير في وثبة مايس عام ١٩٤١م وقدمت للزعيم عبد الكريم قاسم نصائح وإرشادات مهمة في البناء والإصلاح والعدالة الاجتماعية رغم ان الرجل صرح مرات ومرات بأنه فوق الميول والاتجاهات ، ولكنها حين صرحت بعدائها للدين فشلت وتقوقعت وانحسرت . بعد عام ٢٠٠٣م بدت قوى اليسار وكأنها قوى جديدة تختلف عن مثيلتها في الستينيات فهي لا تعادي الدين ولا تسخر منه وحاولت ان تُجَسّر أمتن العلاقات مع الأحزاب الدينية وشاركت معها في الحكم واستوزرت الثقافة حيناً ، ورغم كل هذا فقد ظلت تحبو في توسيع قواعدها الشعبية ومقاعدها الانتخابية فلم يتجاوز عدد نوابها أصابع اليد الواحدة في أفضل حالاتها في انتخابات مجالس المحافظات أو مجلس النواب في أي من دوراته . قوى اليسار لم تستفد من دروس الماضي في التظاهرات الأخيرة وحملت نفسها فوق طاقتها مجدداً فكانت أول من أطلق شعارات ضد الدين وشوشت المتلقي في شكل الدولة التي تريد فرفعت شعارات كان ينبغي أن تبتعد عنها فالدين براء من أي مفسد والدين لا يدعو إلاّ إلى الفضيلة ولا ينبغي تحميل الدين أوزار من يتاجرون بإسمه . حتى الان لم تصدر ردود الفعل الحقيقية اتجاه شعارات اليسار في المظاهرات وان صدرت فخجولة لان العاصفة لم تهدأ بعد ولأن مطالب المتظاهرين تستحق الاستماع ولكن القادم من الأيام سيحمل التيار الديني على الرد وستنطلق حملة كبيرة ضد قوى اليسار مما سيحدد المساحة التي تتحرك فيها هذه القوى والتي هي أصلاً محدودة . لا نشك أن بعض الارهاصات الدينية قد ساعدت على نمو الطائفية والكراهة في البلد وسببت للوطن الكثير من الآلام ولكنها ليست - اعني تلك الارهاصات - من جوهر الدين ومضمونه الرحماني القدسي كما إن نقد قوى اليسار يُذكّر بالعداء المستحكم في القرن الماضي بين التيار الديني واليسار والفتوى المشهورة التي أضرت بالشيوعية وبقوى اليسار عامة . كان الأجدى أن يبتعد اليساريون عن حكايتهم القديمة ولهم ألف باب يستطيعون الولوج فيها لنقد السلطة والطبقة السياسية الحاكمة . نستطيع القول أن الشعارات التي رفعها اليساريون ضد الدين ساهمت في ايجاد ردة فعلٍ موحَدة وموحِدة للأحزاب والفصائل والتيارات الإسلامية فأفرغت هذه الشعارات من محتواها وأعدت لمواجهة اعلامية وفكرية وحتى أمنية معهم .