قطار الإبل العجاف المهازيل يقطع وجه الأفق , الذي بدا مثل جسد أثخنته الجراح , فاصطبغ بلون احمر قاني . الغيوم تنث ودقا من دم عبيط ! بنات النبوة يثقل قلوبهن الهم . بكاء اليتامى والأرامل الخافت يتواشج ونواح شجي يكتنف الأرجاء . تسمعه الآذان , ولا ترى شخوصه الأبصار . زينب ترمق مصارع إخوتها مودعة . تشهق بغصتها : لهف نفسي عليك يااخي , أفارقك رغما عني . قل صبري عن احتمال الفوادح , وذهب تجلدي عن فراقك , روحي هائمة بقربك . التلال تمتد متشابهة بحمرتها المصفرة . تخبئ بين طياتها أجساد الصرعى , وتسف عليهم من ذاريات ترابها , مايسد جراحاتهم الطرية النازفة . أنين الأطفال يخفت تدريجيا , وقد انهكهم التعب , واضر بهم العطش والجوع والخوف . تعود زينب بذاكرتها القهقري , الى تلك الساعة التي تحجر عندها الزمن . صورة الميمون لاتفارق خيالها , حين عاد خاليا ومنكسرا أمام صياح النساء وبكائهن . الشمس ساكنة في كبد السماء . تفح سمومها على مهل . فتصهر الأجساد والحجارة والرمال , وتجعل من ظهيرة ذلك اليوم ثقيلة وخانقة بشكل لايمكن وصفه . عيون النسوة واجفة مترقبة . تترصد سكنات وحركات قوم خلت قلوبهم من الرحمة , او من اي نازع إنساني . قالت : شذاذ آفاق جمعهم حقد تكوم في نفوسهم .. امنوا ثم كفروا , فأعقبهم الله نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه . يسوقهم صوت مشبع باللؤم القبلي : اقتلوه ولو كان متعلقا بأ ستار الكعبة . رمال الصحراء تعانق السماء ببريق زجاجي . تستحثها حوافر الخيل التي تقدح شررا . كان الزمن متكأ على وسادته في الظل . يشهد اصطراع الخير والشر , القبح والجمال , الرحمة والقسوة , المبدأ واللامبدأ , النفوس النقية والنفوس الملوثة , في حتمية الصراع الازلية . السيوف التي يقطر منها الدم تضمخ الأرض بأريج غريب .. الريح تعول في نشيج صامت , رائحة وغادية , معلنة احتجاجها بوجه جحود القوم . وقائل يقول : ياقوم إني أجد ريح النبي ! يرد عليه آخر : إنهم فتية هاشم تتضوع من أجسادهم روائح المسك . النسوة كاسفات البال ينتقلن من خيمة الى خيمة , وزينب تقلب طرفها يمينا وشمالا .. يستشعر قلبها الرزايا النازلات كالمطر .. حائرة بين ان تكون امرأة كباقي النساء تركن الى العويل والبكاء , وبين أن تبقى رابطة الجأش , تحمل مسؤولية ارثها الثمين عيناها – التي أضعفها الهجير والعطش – مشرئبة بأنتظار عودة اخيها . تود لو تصرخ : أين أنت ياحسين , اطلت الغياب هذه المرة يافارس الهيجا . سرحت ببصرها تستذكر وجه ربيب طفولتها , وسبحات وجهه المحببة . فتشرق روحها بفيض نظرته الحانية . ينكسر قلبها لما سمعت المظلوم يكثر من الحوقلة ويسترجع . قال: لامفرمن يوم خط بالقلم . قالت : اخي ياحسين اراك تغتصب نفسك اغتصابا .قال : اخيه زينب اهل السماء لايبقون , واهل الارض يموتون ... اشحت بوجهي عن الصورة المعلقة على الحائط , تطاردني الوجوه المجدورة والنفوس المعطوبة للذئاب البشرية . قالت أختي الواقفة خلف ظهري : اراك تطيل النظر الى هذه الصورة ؟ قلت : لشدما استوقفني وقوف الحسين في لحظاته الاخيرة , وقد احاطت به هذه الذئاب تريد نهشه . قالت : حقا , إنها لصورة مؤلمة وتبعث على الاسى . قلت : كلما نظرت إليها , ذكرتني ببيت من الشعر ! قالت : وماهو ؟! قلت : قول المتنبي واصفا سيف الدولة الحمداني وهو في ميدان الحرب ( وقفت وما في الموت شك لواقف / كأنك في جفن الردى وهو نائم ) اراه ينطبق على وقفة المظلوم .. وحيدا .. غريبا ..غير آبه لدنيا يتساوى فيها الوضيع بالشريف .. غير آبه للموت الذي يطبق عليه رويدا ..رويدا . شحب وجه اختي وبهتت للحظة ,كأنها تدير فكرة ما في ذهنها . قالت : لماذا نقابل عظمائنا بهذه القسوة دائما ؟ قلت : الصورة المثلومة والصورة المتكاملة . هكذا النقائض لايمكن بحال من الاحوال ان تجتمع . كما ترين القلوب النقية التي تحمل قيم السماء ونقيضها القلوب الغلف الملوثة بدونيتها .
قالت : صدقت إن الذئاب اهتاجت لما رأت اكتمال القمر في وجه الحسين . قلت :أترين لو أن حسينا نشر الآن ألا يجد من يقاتله ؟
قالت : وأنت ألا ترى الى الملايين التي تأم مرقده في كل مناسبة وتتبرك بفيوضات وجوده ؟! قلت : لاأدري ان كان ما تقصديه من كلامك الاستفهام ام الاستنكار ؟ قالت : مااقصده الاثنين معا . قلت : أنا اعتقد أننا نحبه مادام حبه لايكلفنا شيئا , ولو وضعنا على المحك لاختلف الأمر. أما سمعت مقولته المؤلمة ( ولو محصوا بالبلاء قل الديانون ) ؟ او مقولة الفرزدق حين سأله المظلوم عن أحوال الناس . قال : قلوبهم معكم وسيوفهم عليكم . إنها المفارقة التاريخية التي تتكرر على مر العصور .. نريد ولانعطي . نزور الحسين ونطلب شفاعته , ولكننا بالمقابل لسنا مستعدين ان نتنازل عن تفاهات عالمنا المادية . بالطبع تبقى المسألة نسبية وغير مضطردة على الكل .
زينب المسبية بالهم تتسمع أخبار اخيها أمام الخيام , وتتشوف مخايل شخصه من بعيد .وقف هناك تلفه غمامة من غبار دقيق , والخيل تدور من حوله كأنه قطب الرحى . ينخطف قلبها لهفة عليه . فيأتيها صوته مجلجلا , يهز رئة السماء : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا اقر لكم إقرار العبيد . تشعر بنوع من الراحة المؤقتة المشوبة بحزن ثقيل . تقلب للبين طرفا غضيضا , وتتملكها رغبة أكيدة , ان ترى أخاها ولو لمرة واحدة . روحها الاسيانة تحلق الى حيث حسين .تعتنقه وتسأله : أخي أما من سبيل للرجوع .. ردنا الى حرم جدنا . – أخيه زينب تعزي بعزاء الله , اما الرجوع فهيهات , ولو أردت ذلك ما تركني هؤلاء القوم . لو ترك القطا ليلا لغفا ونام .
– نور عيني ياحسين , نفسي لاتطاوعني على فراقك . - اخية امرني رسول الله بأمر وأنا ماض اليه . – يابقية الماضي وثمال الحاضر من لعيالك من بعدك ؟ يشرق وجهه كالقمر ليلة تمامه , وتتلألأ في عينيه أنوار بهية : الله وليّ وهو يتولى الصالحين . أخية .. الله .. الله في عيالي . تصبري , وأري القوم من هي بنت المرتضى . – لأنعمنك عينا يامهجة فؤادي . . – اخية عودي الى الخيام فبكاء سكينة كسر قلبي . أترين الى ما يفعل هؤلاء القوم بي ؟ ذلك أهون علي من دموع سكينة .تخفق زينب برأسها . عيناها تبحثان عن سكينة فتراها جالسة في طرف الخيمة , وقد وضعت رأسها بين ركبتيها . – بنية سكينة ما بك ؟ - عمتي العطش احرق كبدي وأنا انتظر عودة ابي بالماء . – بنيتي لاتحرقي قلب عمتك , لقلب عمتك اشد حرارة . ترفع الى السماء يدين أرعشتهما المخاوف : اللهم انا نشكو إليك ماتفعل بنا هذه العصابة الضالة . يأتيني صوت أختي من خلفي متهدجا .. مشروخا : أخي كيف احتملت زينب هذه المصائب الجمة ؟! – وكلّ الله ملائكة يحفظون قلبها ان ينشعب من الأسى , ولو ان صبرها لتزول منه الجبال , ومصائبها لايحتملها اشد الرجال . اسمع صوت أختي يأتيني مختلطا بصهيل الخيل وصليل السيوف : أخي أسدل ستارة على الصورة , فأنا أريد أن أحتفظ بمشاعر الألم هذه , لعلها تواسي ابنة سيدة النساء . استدرت ناحيتها بوجهي , ودموعي تخضب وجنتي حيث تتسرب حبات الملح المحرقة الى غور بعيد في نفسي . قلت بعد لحظة صمت : ( أنست رزاياكم رزايانا التي / سلفت وهونت الرزايا الاتيه ) . أسدلت ستارا على الصورة لاني وجدتها مرسومة في داخلي بصورة أكثر وضوحا وأيلاما . |