من أسباب استغفار المعصومين علیهم السلام هو تربية الناس و تعليمهم طريقة التوبة و الاستغفار، لما كان للدعاء دوراً هاماً ومشهوداً في تربية الناس وحثِّهم على الابتعاد عن الذنوب و المعاصي و سلوك النهج الإلهي.
لو رجعنا إلى كلمات رسول الله صلى الله عليه و آله و كذلك الائمة من أهل بيته عليهم السلام لوجدنا أنهم يكثرون الاستغفار و يطلبون من الله المغفرة ، الأمر الذي يستنكره البعض لأنه يرى ذلك منافياً لمقام عصمتهم عليهم السلام، و سبب استنكارهم هو أنهم يتصورون أن الاستغفار لا يكون إلا من المعصية و الذنب و ترك الواجبات و هو يتنافى مع مقام عصمتهم عليهم السلام.
أسباب استغفار المعصومين
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قَالَ: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ، وَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ” 1 ، و المعنى اللغوي للغين هو ما يتغشى القلب .
لكن العلامة السيد الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه جامع كلمات الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كتابه الموسوم بنهج البلاغة قال في بيان معنى هذا الحديث : و هذا القول مجاز، و المراد أنّ الغمّ يتغشّى قلبه عليه الصلاة و السلام حتّى يستكشف غمّته و يستفرج كربته بالاستغفار، فشبّه ما تغشّى قلبه من ذلك بغواشي الغيم التي تستر الشمس ، و تجلّل الافق ، و ” الغيم ” و ” الغين ” اسمان للسحاب، و سواء قال : ” يغان على قلبي ” أو قال : ” يغام على قلبي ” 2 .
و ذكر العلامة الطريحي رحمه الله في كتابه مجمع البحرين شرحاً لهذا الحديث نقلاً عن أحد العلماء فقال : قال القاضي : ” لما كان قلب النبي صلى الله عليه و آله أتم القلوب صفاءً و أكثرها ضياءً ، و أعرفها عرفاناً ، و كان صلى الله عليه و آله مبينا مع ذلك لشرائع الملة و تأسيس السنة ميسرا غير معسر ، لم يكن له بد من النزول إلى الرخص ، و الالتفات إلى حظوظ النفس ، مع ما كان متمتعا به من أحكام البشرية ، فكأنه إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته ، و فرط نورانيته ، فإن الشيء كلما كان أصفى كانت الكدورة عليه أبين و أهدى و كان صلى الله عليه و آله إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبا ، فاستغفر منه ” 3.
فالاستغفار هنا ليس من الذنب و المعصية حتى يكون منافياً لمقام العصمة ، بل هو بمثابة ارتباط نوراني مع الله و جلاء للقلب من الهموم و الغموم و ما يحيط بهم من كل ما يكدر صفاء الروح من أعمال غيرهم ، فهو استمداد روحاني و رقي في المنزلة الرفيعة .
الاستغفار لترك الأولى
ثم إن من من أسباب استغفار المعصومین و أولياء الله العارفين هو الاستغفار من ترك الأولى 4، حيث أنه لا ينبغي لمن يتمتع بمنزلة خاصة و مقام رفيع و شأن عظيم أن يدع أموراً خاصة رغم عدم وجوبها ، أو يفعل أموراً أخرى مباحة رغم عدم حرمتها . و من هذا المنطلق نجد الامام زين العابدين عليه السلام يقول في مناجاته لله عَزَّ و جَلَّ : ” … أَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ ، وَ مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ ، وَ مِنْ كُلِّ سرُورٍ بِغَيْرِ قرْبِكَ ، وَ مِنْ كلِّ شغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ ” 5.
يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الاِرْبِلي: الاَنبياء والاَئمّة تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، و قلوبهم مملوءة به ، و خواطرهم متعلّقة بالمبدأ ، و هم أبداً في المراقبة، كما قال ( عليه السَّلام ): “اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تره، فإنّه يراك “، فهم أبداً متوجهون إليه و مقبِلون بكُلِّهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية ، و المنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل و الشرب و التفرّغ إلى النكاح و غيره من المباحات ، عَدّوه ذنباً و اعتقدوه خطيئة و استغفروا منه 6.
الاستغفار التربوي التعليمي
ثم إن من أسباب استغفار المعصومین علیهم السلام هو تربية الناس و تعليمهم طريقة التوبة و الاستغفار.
وبما أن للدعاء دوراً هاماً و مشهوداً في تربية الناس و حثِّهم على الإبتعاد عن الذنوب و المعاصي و سلوك النهج الإلهي ، فقد إهتمَّ الأئمة المعصومون عليهم السلام بهذه الوسيلة كل إهتمام ، فقدَّموا للناس كمَّاً هائلاً من الأدعية المؤثرة لمختلف الطبقات و الحالات و المناسبات ، و من خلال هذه الأدعية إستطاع الأئمة عليهم السلام تعليم الناس الكثير من العلوم والمعارف و الآداب ، و لولا هذه الأدعية لما كنَّا اليوم نعرف كيف نخاطب رب العالمين و نطلب منه العون و المدد في اللحظات الصعبة و الأزمات الحرجة التي نمرُّ بها .
نعم إن الدعاء مدرسة حقيقية أسَّسها أولياء الله عَزَّ و جَلَّ من أنبياء و أئمة من أجل تعليم الناس ، لذا فإستغفارهم في كثير من الأدعية إنما هو بهذا الهدف .
و في الختام نقول : إن الاستغفار له آثار كثيرة لا تنحصر فيما ذكرنا ، فمن فوائد الاستغفار طرد الشياطين و استجلاب الرزق و غيرها ، و قد ذكرتها الاحاديث الشريفة .
|