قلنا أن بعض هؤلاء المؤلفين صور مجتمعاً بشرياً محكوماً بدكتاتورية العقول الإلكترونية، وبتبادل الأدوار بين الانسان والآلة، كما يبدو ذلك واضحاً في أحد أعمال (روبرت جاستو) الأخيرة (ما وراء الدماغ)، حين صور الانسان وهو يعيش على هامش الآلة بل في خدمتها.
وهنا نقول: ألا يحق لـ(جاستو) أن يصرّ على تفوق (العقل الالكتروني) على الإنسان في فترة قريبة جداً؟ فإذا كان العقل البشري قد استغرق ملايين السنين ليتطور، فان العقل الالكتروني وصل الى مستوى كبير من الذكاء في أربعين عاماً كلمح البصر.
ومثل هذه المقارنة صبّت الزيت على النار، وبثت الشلل في مفاصل الخيال الأدبي وأصابته بعقدة الاضطهاد، ومن هنا راحت الكتابة تتفنّن في وصف الأهوال والكوابيس التي ينتظرها هذا الكوكب التائه في الفضاء، وتتنبأ بكائنات مشوّهة خارجة من مصانع التكنولوجيا وأدمغة المختبرات.. كائنات لا تعرف اللغة لها اسماً بعد.
وثمة تنبؤات برعب آخر، إنها القيامة بلا عنف تزحف ببطء نحونا، فقد تكون قيامة جليدية، عشرات السنين ونصبح على أبواب عصر جليدي، وتصير النار حلماً بعيداً، ذكرى في أعماق الزمان، وقد تكون قيامة بركانية، أو زحفاً رملياً للصحارى، أو انزلاقاً للقارات، أو أرضاً تختنق بغاز الفحم والتلوث الصناعي.
ومهما تعددت صور هذه القيامة وتغيّرت أسبابها، فإن الكتابة الأدبية التي تستلهم العلم مصابة بعقدة الاضطهاد حيناً، واليأس حيناً، والخيال المريض بالعلم معظم الأحيان..! وبذلك تصبح الإنسانية مع هذه الكتابات في مأزق، بل إنها حين تمحو من أمام أعيننا كل أمل في الانسجام مع أمنا الطبيعة، انما تدفعنا دون إرادة منها الى عبودية (الآلة الأم).
ولكن هل هذه كل احتمالات العلم؟
أليس لدى العلم ما يلهم الأدب سوى هذه العتمة...!
كلكم الى (الملاجئ). هذا هو شعار أحد المهرجانات للكتب والأفلام المعنية بالخطر النووي. ألم يبقَ لدى العلم سوى هذا الوعد اليائس للإنسانية؟ هل يصير وجه الأرض ذكرى؟ هل يكتب هؤلاء اليائسون الخائفون لأحفاد يعودون الى عصر الحجر؟ هل أقبل عصر دابة الأرض؟ من سيقرأ أعمالهم وخيالاتهم المريضة في كوكب قحط بلا زرع ولا نسل ولا حياة؟ أيكتبون لبقايا الجراثيم، والكائنات المشوّهة بأشعة الموت؟
لماذا يكتب هذا الكائن الضعيف المرتعش في الليل؟ هل يرغب في مطاردة الأهوال؟ هل يستطيع أن يطلق العلم الى غير رجعة؟ هل يكتب ليستثير خوفه من هذه الآلات التي تضع الانسان على الهامش؟
أليس للعلم احتمالات أفضل؟ أليس لمخيلة الكتابة إلا هذا الجحيم؟ ألا نستطيع أن نجعل الكتابة العلمية الباحثة عن المجهول موسيقى تمجد انتشار الكون وتناسق الوجود؟
|