لم تكن فريضة الصوم وليدة ظهور الاسلام وانتشاره في أوساط العديد من أمم الارض بل إنها أمر وواجب إلهي ثابت وقديم بقدم وجود الانسان على وجه البسيطة، وهذا مايستدل من مضمون الآية القرآنية الشريفة: ((يا أيُّها الذين آمنوا كـُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم....)) وهذا يدل على أن الامم السابقة على الاسلام كان فيها الصوم واجبا أيضا بدلالة حرف التشبيه (الكاف) لكن صوم تلك الأمم يغاير صومنا من حيث الخصوصية، وأن اتفق معهم من حيث الماهية أوالمفهوم (الامتناع)، فالصوم في الاسلام يعنى الامساك عن المأكل والمشرب والمحرمات منذ الفجر إلى آذان المغرب، على حين أن صوم أهل الكتاب يباين صومنا، إذ يرى صاحب كتاب تفسير الميزان العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره):
(أن الصوم المكتوب عليهم هو غير الصوم المكتوب علينا (المسلمين) من حيث الوقت والخصوصيات والاوصاف، فالنظر في الاية انما هو من حيث أصل الصوم لا من حيث خصوصياته) من هنا كان الصوم في الاسلام بهذا الخصوصية لم يكن عند أحد من قبل أما من حيث ماهية الصوم أي الامساك فأنه موجود عند الامم الأخرى، وهذا ما أراده سبحانه وتعالى بقوله في محكم قرآنه المجيد: ((كما كتب على الذين من قبلكم...)) ثم أن هذه الآية تدل على أن الصوم أمر ثابت وقديم بقدم وجود الانسان ولهذا صاغ سبحانه وتعالى فعل الكتابة (كـُتبَ) على الزمن الماضي ليدل على شدة قدم هذه الفريضة على الانسان وأن اختلفت في صيغتها وخصوصيتها من أمة الى أخرى، وأن هذا القدم في الزمن يلزم الانسان ويوجب عليه الاداء لأن الامر محسوم منذ زمن بعيد ولكنه قد نزل الآن فعليه بالأداء لان هذا الواجب موغل في القدم..
أما قوله عزوجل في بقية الاية القرانية: ((لعلكم تتقون)) تبين الغاية من الصيام وإن دلالة (لعل) في الاية ليست للترجي كما يذهب أهل النحو، وإنما هي تدل على الغاية أي بمعنى: (حتى تتقون) لأن الخطاب صادر منه تعالى ويستحيل عليه أن يترجى عبادة وأنما يفرض عليهم الامر ثم يوضح لهم غايته والافادة منه وهي (التقوى)، ونلحظ أن المفعول به للفعل (يتقون) محذوف وذلك ليدل على أن التقوى تشمل كل شيء، فهي تقوى من الاكل والمشرب و وتقوى من امتداد العين الى ما حرم الله وتقوى في الفقر لإعانته ومساعدته وتقوى بالانسانية لتهذيبها وتعليمها الصبر وكسر الشهوة وتملك زمام النفس والاستحواذ على سلطانها، والتحمّل حتى يقوى المرء على مقارعة الحياة القاسية ومواجهة الظلم فهي تقوى في كل شيء، إذن كل ذلك هو ما احتوته فريضة الصيام من مضامين روحية ومعنوية مقرونه بأفعال وممارسات عبادية تصب في ساحة التقوى والعمل الصالح المرتجى منه طاعة الباري تعالى ونيل مرضاته.
|