كان يغتسل يومها غُسل الشهادة، هو يحمل قلبا طاهرًا بين حناياه ، أبيضًا لايُشبهُ القلوب في معناه...
-أبا جعفر ما خطبكَ اليوم؟!
-الروح ولهى للقائيَ المحتوم..
-أبا جعفر كأنك تقولها ببرودة القلب، كيف يهون عليك فراقنا ، من سيُملي هذا البيت بابتسامتك الملائكية كأنها رغيفُ خبزٍ في فم الجياع...
أطرق الطرف والباب مازالت طرقاتها ترنُّ في أذنيَّ، كأنها تنتظره بطرقاتها المتتابعة، اجتمعت حوله العيال كأنهم يودعون حسين عصرهم اليوم ، ذاك يُقبله وذاك يحنو عليه، أخذ يشمُّ بجنته الفردوسية أمّه العَلَوية ، يُقبّل يديها بحنوٍّ ويشمّهما ثم يضمّهما إلى صدره ، حادبًا على أمه يرجو رضاها ويسألها الدعاء والتسديد، لم تجد بنيته الصغيرة ذات الخمسة أعوام سوى الحائط لتدير وجهها نحوه؛ كي يسترَ دمعها النموم عن حزنها الذي جثم على قلبها الصغير وهي ترى أباها في وداعه الأخير، حنى أبو جعفر عليها وعانقها بذراعيه السخيتين مصبِّرًا إيّاها وهو يقول:" حلوتي! بنيتي! إن كل إنسان يموت، وللموت أسباب عدة، فيمكن أن يموت الإنسان بسبب مرض، أو فجأة على فراشه، أو غير ذلك، ولكن الموت في سبيل الله أفضل بكثير وأشرف، ولو أنني لم أُقتَل بيد صدام وجماعته فقد أموت بمرض أو بسبب آخر.. إن أصحاب عيسى(عليه السلام ) نُشروا بالمناشير، وعُلقوا بالمسامير على صلبان الخشب، صغيرتي، فكلنا سنموت اليوم أو غدا، وإن أكرم الموت القتل. بنيتي! أنا راضٍ بنا يجري عليَّ ، وحتى لو كانت هذه القتلة ستثمر ولو بعد عشرين سنة، فأنا راضٍ بها"
ثم يتجه إلى السيدة فاطمة زوجه الصبور التي حان دورها للوداع الأخير، وقف شاخصًا ببصره إليها وأخذ يصبرها و يوصيها بالعيال خيرا من بعده، ثم توجه واثق الخطى نحو مستقره الأخير، مودعًا مدينته المحبوبة التي سيعود إليها سريعًا حاملًا كفنه بين يديه ليعود إلى جوار محبوبه علي (عليه السلام) وموطن عشقه و محرابه ...
|