رواية ( دروب الفقدان ) رواية العسف والاضطهاد
جمعة عبد الله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جمعة عبد الله

تعتبر رواية الروائي العراقي ( عبدالله صخي ) ( دروب الفقدان - 286 صفحة ) امتداد طبيعي مكمل لرواية ( خلف السدة ) وهي ترصد حياة شريحة كبيرة من المجتمع العراقي , وهم الفقراء الذين انتشلهم الزعيم ( عبدالكريم قاسم ) من الحياة التي لا تليق بحدها الادنى لحياة البشر , فكانوا كومة اكواخ وبيوت صفيح وطين وسط البرك الاسنة من الطين والغبار والحشرات , التي تتطعنهم بالامراض والموت والاهمال , واسس لهم ( مدينة الثورة ) مدينة الفقراء والكادحين والمناضلين , وتكشف الرواية بعمق حالة الاضطهاد السياسي والاجتماعي , وهي تتناول احداث فترة من الاضطراب السياسي في عموم العراق , في اوائل السبعينيات القرن العشرين , في اعتماد السلطة الجديدة - حزب البعث - على نهج ممارسة الاسلوب الامني , في الارهاب والبطش والتنكيل , في سبيل اشاعة الخوف والرعب في صفوف المواطنين , وخنق ابسط اشكال المعارضة السياسية , من اجل الانفراد بالسطلة بالحكم الشمولي لحزب واحد , الحزب القائد - حزب البعث - وهي تقدم يوتوبيا لاشكال وانواع هذا الاضطهاد السياسي , الذي يلاحق المواطن في كل مكان حتى عقر داره , ومحاصرته بالاساليب الامنية , لكي يخضع لارادة حزبها السياسي , وفق نهج ( اذا لم تكن معنا , فأنت ضدنا وعدونا ) , وكذلك ترصد الرواية حالة الاضطهاد الاجتماعي , المسلط على المرأة العراقية , في استلاب ارادتها وكرامتها وحقوقها وانسانيتها , وتدخل الرواية في اعماق حياة ( مدينة الثورة ) لتسجل الحياة الكامل بكل تفاصيلها وجزئياتها , وبالاسلوب الواقعي الذي دأب علية في السرد الروائي ( غابريل غاريسيا ماركيز ) واقترابها من احداث رواية ( الام ) مكسيم غوركي , في الرسم الابداعي في ضبط الاحداث والشخوص , بالرصد الدقيق في تفاصيله , في ميزة الاستنباط والاستنطاق الاحداث اليومية , واعطاء مسار البيان تصاعدي للاحداث التي تواجه الشخوص , في هواجسهم واحلامهم , وصراعهم اليومي في توفير عيشهم الكادح والمضني , من خلال المعايشة اليومية الصميمية من قلب الاحداث , حتى في حثيثاتها التفصيلية , وكشفها على السطح الواقع , بوشيجة متناسقة في الارهاب السياسي والبوليسي , الذي يعترض ويكون عقبة في توفير خبزهم اليومي , ويجهض احلامهم , في مسلسل الانتهاك الشرس , الذي ينهش سكان ( مدينة الثورة ) وعموم العراق , اضافة الى الجور والقهر الاجتماعي , المسلط على المرأة العراقية , دون رحمة وشفقة , في التراجيدية العاصفة , والجاثمة على خناق الناس في كل النواحي والاتجاهات . .
تبدأ الرواية بتنفيذ اول عملية اعدام علنية في ( مدينة الثورة ) في ملعب لكرة القدم , لاعدام الخوشي ( نايف الساعدي ) . ومصلح الخوشي كما يفسره الروائي بأنه ( انهم نبلاء ومتسولون , اوفياء وغدارون , صالحون وطالحون , يدافعون عن الشرف وينتهكونه , يمارسون قيم الفضيلة , وينتصرون للرذيلة ) ص20 . وسبب الاعدام , بان الخوشي ( نايف الساعدي ) حاول انقاذ المرأة الشيوعية ( كاظمية محمد ) من مطاردة رجال الامن لاعتقالها , لانها تشكل خطر على السلطة الحاكمة , لانها من اعضاء التنظيم الشيوعي النسوي في ( مدينة الثورة ) وبالفعل انقذها من الوقوع في ايدي رجال الامن , لكنه دفع ضريبة حياته بالاعدام , لذلك شعر ( علي سلمان ) بالقرف والاشمئزاز من هذه الوحشية , والحالة المرعبة , ان تتم حالة الاعدام امام انظار الجموع البشرية الغفيرة , لتشاهد عملية الاعدام العلني , وهو يعيد شريط ذاكرته عندما كان صغيراً , شاهد جثث اربعة اربعة اشخاص , معلقة على اعمدة خشبية ( خلف السدة ) في بغداد , في اواخر تمموز عام 1963 ,ضربت هذه المشاهد المرعبة , حالته النفسية الى التأزم المحبط بالقهر , وخاصة ان في ذلك اليوم المشؤوم , اجهض حبه المفقود , الذي ظل يبحث عنه اكثر من عام من عناء ومشقة البحث , واخيراً وجد فتاة احلامه ( بدرية ) في خاتم الزواج . ورجع الى البيت في حالة يرثى لها , تصورت امه ( مكية الحسن ) , بان حالته النفسية التعيسة والسيئة , نتيجة عملية الاعدام التي اشمئز الناس من فعلها الشائن , كأن الهدف من هذا الاعدام العلني , ارسال رسالة واضحة لمعارضي السلطة الحاكمة , بان مصيرهم اسود وبشع . و( علي السلمان ) كان يكافح من اجل توفير الخبز لعائلته ( الام وثلاث شقيقات ) بعد وفاة والده , وتركهم دون مورد ومعين , سوى ثوب الفقر , فانخرط في سوق العمال ( المسطر ) وعمره اربعة عشرة عاماً , يخرج مع بزوغ طلوع الفجر , الى مسطر عمال البناء بحثاً عن فرصة عمل , وفي المساء يواصل دراسته الثانوية , واستمرار على هذا المنوال حتى في دراسته في الكلية في المساء , لابعاد شبح الفقر عن عائلته , لذا وجد صعوبة في التوفيق بين عمل البناء والحياة الجامعية , لانها تشكل اعباء مرهقة ترسم حياته بالارهاق المتعب , ولم تكن الحياة الجامعية بالسهولة , كما كان يتصورها , فالمحاضرة الاولى تبدأ في الساعة الخامسة , بينما عمله في البناء ينتهي في الساعة الرابعة , لذا عليه ان يتخلص من ( الجص ) الذي يتجمد على اضافره , وكذلك الاسمنت الذي ينفذ الى فورة رأسه , واذا لامسه الماء يتحول الى طبقة خفيفة من الغبار الرمادي , وزادت المتاعب اكثر جحيماً , لم يتذوق انفاس الصعداء في دراسته الثانوية , في ممارسات الضغط عليه بكل الاشكال , من اجل اجباره على الانتماء الى المنظمة التابعة لحزب البعث الحاكم , والتي يطلق عليها اسم ( الاتحاد الوطني لطلبة العراق ) وكان يتهرب بشتى الطرق , لكن الضغوط اصبحت مضاعفة ومرهقة وهو في الكلية , بانه محاصر ومراقب في كل مكان , في اجباره على الانتماء الى حزب البعث , ورفض القبول بحججه بانه يريد ان يكون مستقل بعيداً عن السياسة والحزبية , يصرخ في وجهه المسؤول الطلابي غاضباً ( لايوجد مستقل , ان لم تكن معنا , فأنت ضدنا ) ثم يلوح بالتهديد المبطن من عواقب رفضه الانتماء ,
( علي لماذا لاتنتمي الى الاتحاد الوطني )
فاجابه بانه مستقل ويفضل ان يبقى كذلك
فقال المسؤول الطلابي الحزبي :
( كل الشيوعييون يقولون انهم مستقلون )ص203 .
ويجد نفسه محاصر في كل مكان بزيادة عمليات الضغط عليه , في المقهى , في الشارع , مداهمات منظمة الحزب البعث في المنطقة , عبر الوسائل الارهابية , بمعنى رفضه سوف يقوده الى الامن وهناك سيجبر بالوسائل التعذيب والمهانة والذل , على التوقيع , وكان ( علي سلمان ) يملك موهبة غنائية رائعة منذ الصغر , فكان يغني في المناسبات الدينية وفي حفلات الاصدقاء والاعراس , وحاول ان يجد وسيط ان يقدمه الى ملحن او مطرب , يقدم له فرصته المناسبة , لكن هذه المحاولات تصتدم بالعقبات المجهضة والفاشلة وتسد الابواب في وجهه , رغم اعتراف الجميع بانه موهبة غائية ممتازة , ولكن من اين ان ياتي بالوسيط الذي يساعده .
وضمن الاجواء الارهابية التي عصفت في العراق , في الحملات الارهابية , التي تقوم بها الاجهزة الامنية في تصفية اعضاء الحزب الشيوعي , بالاعتقال والسجن والتصفية والتسقيط , وخنق كل اشكال المعارضة , وحتى طالت هذه الممارسات الارهابية . مستقلون والذين هم خارج تنظيم حزب البعث , ان هذا الرعب الارهابي مخيم على الجميع ويطال الجميع , في اكمال بناء دولة الاستبداد الدكتاتوري , ويقع ( علي سلمان ) في مصيدة الاعتقال من رجال الامن . لذلك توجست امه ( مكية الحسن ) بالخوف القلق من غياب ابنها المفاجئ عدم المجيء الى البيت , وراحت تلوك الظنون المفزعة والمخيفة , وبعد اسبوع , عرفت بان ( علي سلمان ) معتقل في الامن , وقع الخبر كالصاعقة على رأسها وقصم حياتها النفسية بالدموع والبكاء المر ليل نهار , وهي تتساءل بمرارة وقهر ( اي تهديد يمكن ان يشكله طالب كلية مسائية , مقبل على التخرج , ويعمل في البناء ويتعلم الموسيقى . لسلطة يحرسها جيش وشرطة ودبابات وطائرات ومدافع وصواريخ ؟ هل لديهم ادنى احساس لعذابي ؟ بسنوات انتظاري ؟ ) ص270 . ولم تدوم الحالة المأساوية التي عصفت بالام وطرحتها في الفراش , واصابها بالمرض والجنون والتيه , والغم والهم , حتى انضوى جسدها ولم يعد يتحمل هذا الشقاء والظلم , حتى اسلمت روحها الطاهرة , وهي تلعن هذا الزمن المر .
اعدام بشار رشيد
اكتسب ( بشار رشيد ) مكانة شعبية متميزة بالحب والاحترام , في اخلاقه المتواضعه وحبه وعشقه الشديد للناس , بسلوكه المشهود في السمعة الطيبة , في الاوساط الشعبية وعشاق كرة القدم , وكان ذو موهبة كروية مرموقة احتلت موقع مهم في المنتخب العراقي الوطني , ومن اسماءه اللامعة والمتميزة في عالم الكرة , وكان شخصية محبوبة في سط الناس في تواضعه الجم , وضمن اجواء الحملة الارهابية بالبطش والتنكيل , اعتقل ( بشار رشيد ) بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي , ولم تسعفه السمعة العراقية والدولية , بانه لاعب مشهور ومعروف ذو موهبة كروية كبيرة ومرموقة , لكن الحملة الارهابية , لم تعترف بعطاء المواطن وخدمته للوطن مهما كان , في سبيل اقامة دولة الحزب القائد الواحد , فقد اعدم مع كوكبة كبيرة من مناضلي الحزب الشيوعي , كوجبة اولى اعدام 31 شهيد , ودشنت هذه الاعدامات الجماعية انهيار ( الجبهة الوطنية ) بين حزب البعث والحزب الشيوعي , التي اتخذت كحجة لتصفية الحزب الشيوعي , بالسجن والاعدام والتصفية والاسقاط السياسي . لقد كان اعدام ( بشار رشيد ) احراج وقلق كبير , من ان يحدث ضجة كبيرة عاصفة في ( مدينة الثورة ) وفي عموم العراق . وحين ذهبت ام ( بشار رشيد ) الى السجن لاستلام جثته , همس في اذانها احد الحراس في غفلة وقال لها ( ان ابنها بطل , انه صاح - لا تربطون عيوني , اريد ان ارى قاتلي )ص213 , انعشت هذه الشجاعة البطولية مشاعر امه بالجرأة , وردحت بالاهزوجة الشعبية بصوت مدوي في وجه رجال الامن البعثيين ( يا هاوي الموت امشي ويانه ) ص213 ( يا من تهوى الموت امشي معنا ) وشعرت امه بالنشوة بان هذه الاهزوجة كأنها تسمع ترديد صدى جميع نساء العراق , وتصدح معها ( يا هاوي الموت , امشي ويانه ) ( يا من تهوى الموت امشي معنا ) , لذلك اعترضوا رجال الامن تسليم جثة الشهيد , خوفاً من ان يستغلها شباب واهالي مدينة الثورة وتتحول الى مظاهرة شعبية احتجاجية , طلبوا من الام بان تستلم نعش ابنها خارج مدينة الثورة , في بداية ( قناة الجيش ) وبشكل سري دون اعلام اي شخص , ولكن خبر اعدام ( بشار رشيد ) انتقل من بيت الى بيت , من قطاع الى قطاع , فخرج الاهالي ومن عشاق كرة القدم بالاف لتوديع ابنهم البار , مما اثار الذعر في صفوف رجال الامن , من الاعداد الهائلة من المشيعين , ويصعب السيطرة على الموقف . مما ضطروا الى الهرب بالنعش الشهيد الى مدينة النجف الاشرف , وكانت الام وسط الحشود المشيعة تردح بالهوسات الشعبية .
( كل جابت خابت بس آنه ) ( كل من انجبت خاب ظنها , إلا أنا ) ص215 . ورددت النسوة هوستها .
( كل جابت خابت بس آنه ) ( كل من انجبت خاب ظنها , إلا أنا )
( ودوه يبلعنه وغص بينه ) ( ارسلوه ليبتلعنا , فغص بنا )
هكذا خيمت غيوم الحزن والغضب على ( مدينة الثورة ) ودلفت في ثوب الانقلاب العسكري , حيث امتلئت المدينة برجال الامن والحزبين وغصت بهم الشوارع وقطاعات مدينة الثورة , تحسباً لاي طارئ يحدث بالضد من الحزب البعث الحاكم , وقد لبست المدينة ثوب السواد والحزن , وهي تودع ابنها البار , الذي احبته منذ ان كان صبياً يلعب في ملاعبها , واعتبر من الرموز المحبوبة والشعبية .
هكذا رسمت رواية ( دروب الفقدان ) شريط حياة مدينة الثورة بالسينما التسجيلية الراقية , وكذلك ترجمت اساليب الاضطراب السياسي في عهد ارهاب البعث
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat