(السحل) لماذا يستحقه القائمون على مؤسسات الأعلام والثقافة العربية؟!
محمود محمد حسن عبدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمود محمد حسن عبدي

كنّا قد اطّلعنا وبامتنان بالغ وتقدير كبير، على نبذة مختصرة نقلها كاتب في (رام الله) بفلسطين، عن محاضرة جرت في (الحديدة) باليمن، للأستاذ الدكتور سعد العتابي من (بغداد) بالعراق، حول موضوع غاية في الأهمية والحساسية، ألا وهو (مخاطر الأدب المترجم للأطفال)، ولن أسهب كثيرًا في الحديث عن كم أصبح أطفالنا يعيشون انفصامًا ثقافيًا، وحالة ملفتة من الوقاحة وسوء الأدب، نلمسها كل يوم وكلّ لحظة، واستعدادًا وتقبلًا لممارسة الشعوذة والسرقة وأنواع الشذوذات السلوكية والأخلاقية، لدرجة صادمة تجعلنا نشعر كأنما ألقى بهم علينا طائر "اللقلق" لنتبناهم ونطعمهم ونكوسهم، وهم متشبعون بتربية أخرى غير التي نقدّمها لهم، رغم أنهم يعيشون تحت سمعنا وبصرنا، ولا يأكلون سوى ما نقدّمه لهم، ولا يلبسون سوى ما نحضره لهم!
من المسؤول؟!
يشير الدكتور سعد العتابي حسب ما ورد في النبذة المنشورة، إلى ضرورة التركيز على دور الأسرة في حماية الطفل من التعرّض لكمية "الإفساد" المنهجي والتدريجي والمتراكم، الذي يتسرّب إلى بيوتنا من خلال مؤسسات إعلامية يمتلكها "عرب مسلمون" أو هكذا يُقال!
ورغم أن الدكتور العتابي لم يضع المسؤولية "كاملة" على الأسرة في ذلك الشأن، فإنني أرغب في هذه العجالة، أن أركّز أكثر على العامل الأكثر تأثيرًا في هذه المعادلة، التي نستغرب حتى إمكانية وجودها، في مجتمعات من المفترض بها أن تكون القيم الأخلاقية والالتزام الديني أمرًا واضحًا، يستوجب تنزيهه عن الشبهات، بحيث لا يوجد مكان فيها للحديث الغثَّ عن السوق والمرابح والمخاسر.
إنّه ما من شكٍّ في أن الإنتاج الثقافي المترجم، قد أصبح أحد أكبر جوانب المعروض الثقافي والإعلامي والترفيهي في بلادنا، كما أنّ أهم عامل في اختراقه للمنظومة الثقافية والقيم التي تخصّنا، راجع إلى تقديم الدول والمؤسسات الأجنبية دعمًا لكل من يمارس الترجمة والدبلجة، لتصبح ثقافتهم ـ هم ـ حاضرة بصورة لا يمكن تجاهلها على أرفف المكتبات ومعارض الكتب والأقراص المدمجة، كما في ساعات البث التلفزيوني الرخيصة، وصفحات المجلات وحتى الجرائد والنشرات الدورية، والملفت حقيقة أن كل جهود النقل والتعريب التي تحدث في واقع الأمر، والتي تمارسها "جلّ" مؤسسات الإنتاج الثقافي والإعلامي، ليست سوى رجع صدىً لجهود أجنبية تسعى لنشر ثقافتها، دون أن يخفى عامل الربح المادي الطائل، المتمثل في الحصول على المنتج وحقوق تسويقه بأسعار "مدعومة"، ثم إجراء ما يتم إجراؤه من تعريب، ثم إعادة بيعه في السوق العربية بسعر مرتفع، على أنه قد تم دفع "قيمته كاملة"، في صفقات تتم تحت الطاولة، وكل ذلك في النهاية يصب في مصلحة جهات، وبلدان تسعى لتسويق منتجاتها "المستقبلية"، عبر خلق جيل غير إنساني ومفتقر للاخلاق نقوم نحن بـ"علفه" لهم و "كسوته".
لقد سبق ومررنا بتجارب شخصية، جعلتنا نبكي على أيام كانت تقول العرب فيها : (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)، حين وجدنا أن كل الكلام الكثير الذي يملؤ الأسماع والأبصار، والذي يصرّ على عدم كفاءة المنتج الثقافي العربي، وعدم مهنية المبدع العربي، وتردي نوعية المعروض المحلي من أصناف ـ لاحظ التسليع ـ الإبتكار والتجديد المحلي، لم يكن يومًا كلام حقٍّ أصلًا لنسترسل ونقول أنه أُريد به باطل، بل إن المسألة أبسط بكثير من ذلك، فأقل ما يمكن قوله فيما يجري بشكل ممنهج ومدروس، هو السعي لإشعار المبدع العربي بأن لا قيمة تُذكر لما يقدّمه، لا لشيء سوى لإقناعه بالقبول بنصف أو ثُلثِ ما هو معروض على من يقوم بالترجمة أو التعريب، لتكون الحقيقة الفاقعة، حين يتعامل صاحب الإبداع من العرب، مع مؤسسة ثقافية في وطنه الأكبر، أن (أخي وأمي ـ بالفعل ـ مع الغريب)! والأنكى أن الغريب ليس في حاجة إليهم، بل إن ما "يسمح" لهم بتعريبه، يقع ضمن أنواع المساعدات التي من المؤكد أنها ستوضع في فاتورة ما، لتدخل بصورة وأخرى ضمن مديونية ما، سندفعها نحن في آخر الأمر، وليس ذلك سوى بعد أن نكون قد خسرنا مبدعينا، وأصبح جيلنا الجديد غريبًا عنّا!
إننا اليوم نعيش في مجتمع كبير يضم أكثر من مئتي مليون إنسان، ينتسبون بصورة أو أخرى للعروبة والثقافة العربية، مجتمع أصبحت السخرية من المتحدثين بلغته الفصيحة أمرًا طبيعيًا، مجتمع يحتقر نفسه لا لأنه يتعرّض للهزائم والنكسات، أو أن أوضاعه السياسية غير سارّة، بل لأنه مجتمع لازال هناك من يُطبق على عقول أبنائه، بالبخس والكسر والتخذيل، واتصوّر أن قلّة الحديث بـ"صراحة" عن هذا الأمر، من وجهة نظر اجتماعية، لا تستند لموقف ديني أو مقولة سياسية، يرجع إلى أن المثقف العربي أصبح تحت رحمة الحرمان المركد، من جنّة أن ترى أعماله النور، لو أطلق صرخة في الفضاء ، لمجرّد أنها تحمل ألمه وشعوره بالمهانة، على أيدي من كان يُفترض بهم أن يساندوه.
إن ما يجري اليوم على مستوى مؤسسات البث والإنتاج الإعلامي والترفيهي، وما تقوم به مؤسسات ذات اسم كبير في مجال الإنتاج الثقافي، من ترجيح لكفّة التعريب والترجمة، على حساب المنتج الأصيل والجديد، لجريمة تسوق هذه الأمة إلى هاوية، يصبح الخيار فيها بين نبذ كل التطوّر الذي لم يسلم مفهومٌ واحدٌ من مفاهيمه من التلويث والمسخ، وبين التعري من كل قيمة أصيلة والقفز في بركة مسبقة الصنع، نسبح فيها ـ مثل كل الناس ـ غير آبهين بما يميزنا وما هو من واجبنا إضافته إلى هذا العالم، خلا ما نقوم به اليوم من الاستهلاك، ولا يمكننا أن نطالب ونحن يغمرنا الشعور بالخيانة، وكل ما له قيمة لدينا يهان ويُهدر، سوى بأن يعامل أولئك الغافلون القابعون في مكاتبهم الفارهة، والذين لا نرى صورهم سوى على صفحات المجتمع وفي المناسبات، بما يوازي دورهم التخريبي العميق، ونعلن بوضوح أنهم بالفعل يستحقون السحل، كما سهّلوا تمريغ الإبداع والقيم في وحل المادية، فالعين بالعين والبادئ أظلم.
باحث من الصومال
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat