على ضفاف الانتظار(104)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

كيفَ سيتعاملُ الإمامُ المهدي عجل الله فرجه الشريف مع غير المسلمين؟
لا شكَّ أنَّ أمر الإمام المهدي سيظهرُ علىٰ كُلِّ الكرةِ الأرضية، وأنّه لا يبقىٰ أحدٌ يرفعُ أيّ شعارٍ أو مُمارسةٍ غير إسلامية، الأمرُ الذي صرّحتْ به بعضُ الرواياتِ الشريفة، فعن الفضيل بن يسار، قال: سمعتُ أبا عبدِ الله يقول: إنَّ قائمَنا إذا قامَ استقبلَ من جهلِ الناسِ أشدَّ ممّا استقبله رسولُ الله من جهالِ الجاهلية. قلت: وكيف ذاك؟ قال: إنَّ رسولَ اللهأتىٰ الناس وهم يعبدون الحجارةَ والصخورَ والعيدانَ والخشبَ المنحوتة، وإنَّ قائمنا إذا قامَ أتىٰ الناسَ وكُلّهم يتأوّلُ عليه كتابَ اللهِ يحتجُّ عليه به، ثم قال: أما واللهِ ليدخلنّ عليهم عدلُه جوفَ بيوتِهم كما يدخلُ الحر والقر.
ومن ثمّ فقد يتساءلُ بعضٌ: ما مصيرُ بقيةِ الديانات؟
كيفَ يتعاملُ مع اليهودِ والنصارىٰ وبقيةِ أهلِ المِللِ والنِحَل؟
والجواب:
ثبتَ في مباحثِ علمِ الكلامِ والعقيدةِ أنَّ الإمامَ لا بُدَّ أنْ يكونَ معصومًا، فالإمامُ المهدي معصوم، ومن ثمّ فلا يُمكِنُ أنْ نتصوّرَ أنّه يفعلُ ما فيه ظلمٌ أو عبثٌ أو خطأ، وإنّما سيكونُ مُسدّدًا من اللهِ (تعالىٰ) بعلمه اللدني الذي يكشفُ له الواقع كما هو، فيكونُ تصرُّفُه مطابقًا للواقعِ الحقّ.
إذا تبين هذا فنقول:
إنَّ الإمامَ المهدي سيتعاملُ مع الدياناتِ الأخرىٰ وفقَ الخطوتينِ الآتيتين حسب ما يظهرُ من الرواياتِ الشريفة:
الخطوة الأولى: العملُ على هدايتهم إلى الحق.
وذلك من خلال:
1/ فتح بابِ النقاشِ العلمي، من أجلِ الوصولِ إلىٰ قناعاتٍ مُستدلةٍ يقينية، تدعو كُلَّ مُنصفٍ أنْ يؤمنَ بها، ومن ذلك ما رويَ عن الإمامِ الصادقِ أنَّه قال: «... فإنَّما سُمّيَ المهدي؛ لأنَّه يهدي لأمرٍ خفي، يستخرجُ التوراةَ وسائرَ كُتُبِ اللهِ من غارٍ بأنطاكية، فيحكمُ بينَ أهلِ التوراةِ بالتوراة، وبينَ أهلِ الإنجيل بالإنجيل، وبينَ أهلِ الزبورِ بالزبور، وبينَ أهلِ الفرقانِ بالفرقان...» .
2/ إظهار بعضِ المُعجزاتِ لهم ممّا يكشفُ حقّانيته وحقّانية دعوته.
ومن ذلك ما وردَ من أنَّه يبعثُ بعضَ أصحابِه إلىٰ بعض المدن (مثل القسطنطينية)، فيفتح الناسُ لهم أبوابها سلمًا عندما يرونهم يمشون علىٰ الماء.
عن الإمامِ الباقرِ قال: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ بَعَثَ فِي أَقَالِيمِ الْأَرْضِ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ رَجُلاً، يَقُولُ: عَهْدُكَ فِي كَفِّكَ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ أَمْرٌ لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْرِفُ الْقَضَاءَ فِيهِ فَانْظُرْ إِلَىٰ كَفِّكَ وَاعْمَلْ بِمَا فِيهَا».
قَالَ: «وَيَبْعَثُ جُنْداً إِلَىٰ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَإِذَا بَلَغُوا الْخَلِيجَ كَتَبُوا عَلَىٰ أَقْدَامِهِمْ شَيْئاً وَمَشَوْا عَلَىٰ المَاءِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمُ الرُّومُ يَمْشُونَ عَلَىٰ المَاءِ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ يَمْشُونَ عَلَىٰ المَاءِ، فَكَيْفَ هُوَ؟ فَعِنْدَ ذَلِك يَفْتَحُونَ لَهُمْ أَبْوَابَ المَدِينَةِ، فَيَدْخُلُونَهَا، فَيَحْكُمُونَ فِيهَا مَا يُرِيدُونَ» .
الخطوة الثانية: مرحلة التعامل الإجرائي الإسلامي:
ممّا كانَ يفعلُه رسولُ الله مع الكُفّارِ في زمنه، هو أحدَ أمرين:
الأمر الأول:
أنْ يُبقيهم علىٰ أديانِهم، ويتعاملَ معهم تعامُلَ أهلِ الذمّةِ، فيأخذُ منهم الجزية، ويبقون تحتَ حمايةِ الإسلام، ولا يُسمَحُ لهم بإظهارِ أيّ شعيرةٍ أو مُمارسةٍ غيرِ إسلامية.
ولعلّ ممّا يدلُّ علىٰ ذلك ما رويَ عن رسولِ الله : من أبغضنا أهلَ البيتِ بعثه اللهُ يهوديًا، قيل: يا رسولَ الله، وإنْ شهدَ الشهادتين؟ قالَ: نعم، إنّما احتجبَ بهاتين الكلمتينِ عن سفكِ دمه، أو يؤدّي الجزيةَ وهو صاغر، ثم قالَ: من أبغضنا أهلَ البيت بعثه اللهُ يهوديًا. قيل: وكيفَ يا رسولَ الله؟ قال: إنْ أدركَ الدجّالَ آمنَ به.
وَعنْ سَلَّامِ بْنِ المُسْتَنِيرِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ: إِذَا قَامَ القَائِمُ عَرَضَ الإِيمَانَ عَلَىٰ كُلِّ نَاصِبٍ، فَإِنْ دَخَلَ فِيه بِحَقِيقَةٍ، وإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَه أَوْ يُؤَدِّيَ الجِزْيَةَ ، كَمَا يُؤَدِّيهَا اليَوْمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ، ويَشُدُّ عَلَىٰ وَسَطِه الهِمْيَانَ، ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الأَمْصَارِ إِلَىٰ السَّوَادِ.
الأمر الثاني:
أنْ يحملَهم علىٰ الإسلامِ رغمًا عنهم، وهذا ما يظهرُ من بعضِ الرواياتِ الشريفة.
فقد رويَ في شأنِ النبي عيسىٰ ما يدلُّ علىٰ أنّه يحملُ الناسَ علىٰ الإسلامِ ولا يقبلُ منهم الجزية، فقد رويَ عن رسولِ الله:... ويكونُ عيسىٰ في أمّتي حكمًا عدلًا، وإمامًا مُقسطًا، ويدقُّ الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية...
أي: يحملُ الناس علىٰ دينِ الإسلام، فلا يبقىٰ ذِمّي تجري عليه الجزية.
وقال العلامة المجلسي في ذيل هذه الرواية: وقوله (ويضع الجزية) معناه أنه يضعها من أهل الكتاب، ويحملهم علىٰ الاسلام، فقد روىٰ أبو هريرة، عن النبي في نزول عيسىٰ: ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفىٰ فيصلي عليه المسلمون. وقيل معنىٰ (وضع الجزية) أنَّ المالِ يكثُرُ حتىٰ لا يوجد مُحتاجٌ ممّن يوضَعُ فيهم الجزية، يدلُّ عليه قوله: فيفيضُ المالُ حتىٰ لا يقبله أحدٌ.
ولعلَّ ذكرَ النبي عيسىٰ باعتبارِ أنّه سيُصلّي خلفَ الإمامِ المهدي، ومن ثمّ سيظهرُ لكُلِّ أتباعِه من المسيحيين أنّه من أتباعِ الإمامِ المهدي وأنَّ عليهم أنْ يتبعوه كما تبعه هو، فلا يكونُ هناك عذرٌ لمن يُنكِرُ الإسلامَ ولا يتبعُ المهدي.
وممّا يدلُّ أيضًا علىٰ أنّه لا يقبلُ الجزيةَ منهم هو ما رويَ عن أميرِ المؤمنين أنّه قال: فإنَّ اللهَ (تبارك وتعالىٰ) لن يذهبَ بالدُنيا حتىٰ يقوم مِنّا القائم، يقتلُ مُبغضينا، ولا يقبلُ الجزية، ويكسرُ الصليبَ والأصنام، ويضعُ الحرب أوزارها، ويدعو إلىٰ أخذِ المالِ فيقسمه بالسوية، ويعدلُ في الرعية.
ومنه: ما رويَ عن أبي جعفرٍ الباقر: «ولا تبقىٰ أرضٌ إلا نوديَ فيها شهادةُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وهو قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ، ولا يقبلُ صاحبُ هذا الأمر الجزيةَ كما قبلَها رسولُ الله، وهو قولُ الله: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ﴾ ، قالَ أبو جعفر: يُقاتَلون واللهِ حتىٰ يوحَّد اللهُ ولا يُشرَك به شيئًا، وحتىٰ تخرج العجوزُ الضعيفةُ من المشرقِ تُريدُ المغربَ ولا ينهاها أحد، ويخرجُ اللهُ من الأرضِ بذرها، وينزلُ من السماءِ قطرها...».
فهذه الرواياتُ واضحةٌ في أنَّ الإمامَ المهدي سيحملُ الجميعَ علىٰ أنْ يكونوا مسلمين، ولن يقبلَ منهم غيره، وذلك لكمالِ الحُجّةِ ووضوحِها عليهم، فلا يبقىٰ أحدٌ معارضًا للإسلامِ إلا المُعاند والمُلحد، وهو بلا ريب سيكونُ مُحاربًا للإمامِ ومُعترضًا عليه، فلا سبيلَ له إلا الإسلام أو القتل.
الجمعُ بينَ الروايات:
لاحظنا أنَّ الرواياتِ بعضَها يُشيرُ إلىٰ قبولِ الإمامِ المهدي الجزيةَ من أهلِ الكتاب، وبعضها يقولُ بأنّه لا يقبلُ الجزية ويحملهم علىٰ الإسلام رغمًا عنهم، فما وجهُ الجمعِ بينَ هذه الروايات؟
الجواب: يمكن ذكر وجهين للجميع:
الوجه الأول:
إنّه يقبلُ الجزيةَ من غيرِ النواصبِ ومن غيرِ الذين يقاتلونه، وأمّا النواصبُ ومن يرفعُ السلاحَ بوجهه فإنّه لن يقبلَ منه الجزية، وسوف يُقاتلهم أو يُسلمون.
ولعلَّ ممّا يُشيرُ إلىٰ وجهِ الجمعِ هذا هو ما رويَ عن أبي بصير عن أبي عبدِ الله قال: قال لي: يا أبا محمد، كأنّي أرىٰ نزولَ القائمِفي مسجدِ السهلةِ بأهله وعياله... قلت: فما يكونُ من أهلِ الذمّةِ عنده؟
قال: يُسالمُهم كما سالمهم رسولُ الله ويؤدّون الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون.
قلت: فمنْ نصبَ لكم العداوة؟
فقال: لا يا أبا محمد، ما لمن خالفنا فيه في دولتِنا من نصيب، إنَّ اللهَ قد أحلَّ لنا دماءهم عند قيامِ قائمنا، فاليوم مُحرّمٌ علينا وعليكم ذلك، فلا يغرنّك أحد، إذا قامَ قائمُنا انتقمَ للهِ ولرسولِه ولنا أجمعين.
الوجه الثاني:
إنّه في أوائلِ زمان ظهوره يقبلُ الجزية، وبعدَ أنْ تستتبَّ له الأمورُ وتتضحَ الحُجّةُ ويبينَ الحقُّ بنحوِ القطعِ واليقين، فإنّه لا يقبلُ منهم إلا الإيمانَ أو القتل.
وإليه الإشارةُ من المازندراني في شرحه لروايةِ سلام بن المستنير المتقدمة، حيث قالَ في شرحها:
والمُرادُ بحقيقةِ الإيمان: الإيمانُ الخالص، وبالناصبِ: غير الإمامية من فرق الإسلام، وفي هذا الخبرِ دلالةٌ علىٰ أنّه يقبلُ الجزيةَ منهم إنْ لم يؤمِنوا إيمانًا خالصًا، إلاّ أنّه ضعيفٌ، وعلىٰ تقديرِ العملِ به، فلعلَّ الجمعَ بينه وبينَ ما رويَ من أنّه يضعُ الجزيةَ عندَ ظهوره أنّه يضعُها عن أهلِ الكتابِ -فإنّهم حينئذٍ بمنزلةِ الحربي- لا يرفعُ عنهم السيفَ حتىٰ يؤمنوا أو يُقتلوا. واللهُ أعلم.
والحاصل: أنّه بعدَ أنْ يظهرَ الإسلامُ علىٰ الأديانِ كُلّها، ويستقرَّ الأمرُ للإمامِ المهدي وتتضحَ الحقيقةُ للجميع، ويبينَ الحقُّ بلا أدنىٰ ريب، حينها لا يبقىٰ أيّ عذرٍ لمن لا يعتنقُ الإسلام، ولن يبقىٰ بعيدًا عنه إلا المُعاند والرافض للحق، والباغي علىٰ المُسلمين، وهذا لا مكانَ له في دولةِ العدلِ والأمنِ والسلام.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat