صفحة الكاتب : محمد السمناوي

المنهج التاريخي لنشأة الأخلاق وجذورها عبر الماضي
محمد السمناوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لقد حاول الإنسان منذ نشأة الحضارات أن يضع قوانين تحدد سلوكه ومعاملاته الأخلاقيّة حماية للمجتمع من التدهور، وكان من بينها شريعة(حمورابي) ملك بابل العظيم(2100ق.م)، الذي قام بجمع تراث الآباء والأجداد في بلاد سومر وآكد والتي شملت كل جوانب الحياة العمليّة، حتى وضعت قواعد مشددة تعاقب من يخالف هذه القوانين والضوابط والمعايير الأخلاقيّة في تلك الحقبة، وفي نفس الوقت كانت هذه القوانين الأخلاقيّة تراعي الأوضاع الإجتماعيّة والإقتصاديّة معاً، وكان القدماء في بابل وآشور يهتمون بالأخلاق في حياة الإنسان بكل صورها وأشكالها(1).

       وقبل أن نتحدث عن المنهج التاريخي لنشأة الأخلاق وجذورها في مصر القديمة، ينبغي أن نتعرف على الخلفيّة الحضاريّة التي نما فيها ذلك الفكر الأخلاقي ونشأ وتطور، ولا مجال في ذكره في هذه الإطالة السريعة المجملة.

       ولا شك إن عصر النشأة وبيئتها يؤثران في الفكر فيلعبان دوراً كبيراً في تشكيل الأفكار، حيث إن الفكر الإنساني لا ينفصل عن الواقع الاجتماعي الذي نشأ فيه. فهناك علاقة جدليّة بين الابنيّة والمؤسسات السياسيّة والإجتماعيّة يواكبها تحول في الجوانب الفكريّة والثقافيّة والأحوال السياسيّة والإجتماعيّة المتمثلة في عصر التكوين وبداية الأسرات، والبنيّة الإجتماعيّة، ويبدأ علم الأخلاق بالتجربة كمصدر للمعرفة على اعتبار أن العقل صفحة بيضاء (Tabula Raza)، وأن التجربة هي مصدر ما تكتسبه من أفكار ومعارف، ومن ثم كانت الأفكار الأخلاقيّة هي وليدة(تجارب) وترتبط بمشاعر ومقاييس عمليّة، وتترابط هذه التجارب السلوكيّة فتتكون(العادات) و (الواجبات)(2).

       كانت هذه المرحلة الثانيّة في الفكر الأخلاقي في التراث المصري القديم، الذي تأثر بشكل كبير بحضارة ما بين النهرين، ولذا يمكن القول أن أول المصادر وأهمها التي يمكن أن نلتمس من خلالها الجانب الأخلاقي في مصر القديمة هي تلك الحكم والوصايا التي تركها أصحابها، وقد أطلق عليها بعض الباحثين أنها حكم ووصايا من أجل الإرشاد إلى الحياة أو ببساطة قد يطلق عليها اسم التعاليم، ويرى (موينز) أن تلك النصوص الخاصة بالحكم الوصايا لا تبحث على وجه الحصل فيما يخص القضايا والمسائل الأخلاقيّة لكن تؤكد أيضاً على توضيح الجانب الخاص بالديانة، وغيرها من النصوص الأخرى والتي تشترك جميعها في الحث على التحلي بالفضائل، والبعد عن الرذائل، وتطهير العقل والبدن معاً كما انها المعيار الأساسي لتعلم قواعد السلوك حيث تحث على التزام القيم الاخلاقيّة الرفيعة وأسس العادلة، وحق الإنسان في الحياة الكريمة، وواجبات الحاكم نحو المحكومين(3).

        هذا ما كان مرتبطاً بالجانب الحضاري في الفكر الشرقي القديم أما إذا انتقلنا إلى الفكر اليوناني، وجدنا الإندماج واضحاً بين الأخلاق والسياسة، فلا شك أن اليونان كانوا يدرسون علم السياسة دائماً بأسلوب علم الأخلاق، يقول سير ارنست باركر(Sir Ernest Barker):"أن الفكر السياسي الذي يتناول بالبحث المدينة اليونانيّة، كان لا بد أن يتأثر بلون الظروف الخاصة برعاياها، فالمدينة كانت مجتمعاً اخلاقياً، ولهذا فعندما تناول اليونانيون علم السياسة فيما يختص بهذا المجتمع أصبح هذا العلم في أيديهم بنوع خاص وبصورة مؤكدة علماً اخلاقياً"(4).

        أما ما كان مرتبطاً بالجانب الديني في تكوين الأخلاق وتطورها ونشأتها فتعتبر جميع الكتب والتشريعات السماويّة مصدر القيم والأخلاق الإنسانيّة، لأن العلماء والفلاسفة والمفكرين كانوا ولا يزالون منشغلين بدراسة هذا المفهوم وتفسيره وتفصيله وإظهار تأثيره، خاصة في تدخله في جميع العلوم والمعارف، ومنها علم النفس، وماهي أبعاد مفهوم الأخلاق والصراع في نظريّة المعرفة، إذا كانت موجودة؟ أم أن هناك سببًا لتداخل هذين المفهومين بالقوة؟

        إن الأخلاق ظاهرة واقعية في السلوك البشري ولا يمكن تفسيرها بعقلانية، فالسلوك الأخلاقي في ميزان الفكر المجرد ليس إلا حقيقة، ولا يمكن إلا أن يكون لها معنى يتجاوز حدود العقلانية في عالم الإيمان بالله تعالى. ويتضمن معنى المفاهيم الأخلاقية والحقيقة عقلانية خاصة تنتهك حد العقلانية للتفكير المجرد.

        ثم إنه لا يمكن للتفكير المجرد أن يفهم هذه المعاني ما لم ينسحب من مرحلة العقلانية المادية إلى مرحلة العقلانية الدينية، أو ينحرف من سيطرة الحضارة وانفتاحها على رؤية الثقافة بمصطلحاتها. لأنه في رأيه، الإنسان رجل ليس لديه الجوهر الوحدوي والمادي الذي تطالب به الفلسفة المادية، بل على العكس من ذلك، فهو رجل ثنائي يختلط فيه الروح بالمادة، أو بعبارة أخرى، في تعبيره. في الصين، تضاعفت الحضارة والثقافة. تمثل الثقافة النظرة الروحية للبشرية. لذلك يبدأ بإدخال الجنة من الدين والفن والأخلاق والفلسفة، وسيظل مرتبطًا بعلاقة الإنسان بالسماء حيث ينزل(5).

       ومن هنا يمكن القول من جهة المنهج في تطور الاخلاق ونشأتها وتدخل الدين في صياغتها وتثبيتها، فالأخلاق في اليهوديّة اقتبست واستمدت جذورها من أساسها الديني المتمثل في الوصايا العشر المنصوص عليها في التوراة وخاصة تلك الضوابط الأخلاقيّة التي تدور حول قدسيّة الحياة وحفظ كرامة الإنسان(6).

      إن النظام الديني إنما يتفاعل مع كل مظاهر الحياة الأخلاقيّة الجمعيّة، بفضل تلك العلاقات التي تتولد عن روح المشاعر الدينيّة التي تدفعنا بقوة نحو مثال( الخير والحق والجمال)، فتنصر قوى الخير على قوى الشر، وتتغلب الحياة على الموت، وينشر النور الديني اجنحته ليبدد ظلام الرذيلة وجهالتها.

      ولقد أكد أميل دور كايم على أن أهم ما تتصف به أخلاق الشعوب البدائيّة هي أنها دينيّة خالصة، إذ أن أكثر الواجبات البدائيّة، إنما لا تتعلق بصلة الفرد البدائي بالآخر، ولكنها جمعاً تفسر علاقة البدائي وواجباته نحو الآلهة، ولقد كانت الاخلاق والفلسفة والفن والقانون ممتزجة جميعاً بالدين، حيث اختلطت الاخلاق البدائيّة بالدين، كما صدر العلم والفلسفة في أحضان الدين.

      وما زال الدين حتى اليوم يضمن للأخلاق احترماً، ويحيطها بهالة من القداسة، فيقوم بردع من تحدثه نفسه في الخروج عليها، بمعنى أن قواعد الدين إنما تفرض نفسها على مظاهر السلوك الخلقي، كما أن وظيفة الدين لا تقتصر الآن فقط على حماية الأخلاق فهو لا يؤسس الاخلاق بقدر ما هو رباط ضمان وأساس حماية، وإذا كانت الأخلاق تفترق إرادة وسلوكاً وعملاً فإن الدين ذاته هو اعتقاد وإيمان وعمل فلا يمكن للمسألة الأخلاقيّة إلا أن تثير المسألة الدينيّة(7).

     ومن هنا يمكن القول في خلاصة ذلك ان أسس الأخلاق وجذورها تعود من جهة الإصالة للأنبياء والرسل عبر سلسلة أدوارهم في عمق التاريخ، وقد تأثرت الحضارات سواء في بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان والرومان، ولذا ان منبع الأخلاق والعادات والتقاليد الإنسانية السليم كان بالأساس هي إلهيّة جسدها الأنبياء والرسل عبر إنزال الكتب والصحف.

 

 المصادر والهوامش

([1]) البقصي، ناهدة، الهندسة الوراثيّة والأخلاق، سلسلة عالم المعرفة(174)، تقديم: مختار الظواهري، ذو الحجة 1413هـ، يونيو/ حزيران 1993م، ص37ـ43.

(2) قباري، محمد إسماعيل، قضايا علم الاخلاق دراسة نقديّة من زاوية علم الإجتماع، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، ط1، 1975، القاهرة، ص11.

(3) شاهيناز، زهران، الأخلاق في الفكر المصري القديم، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012م، ص34.

(4)إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة دراسة في فلسفة الحكم، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة، 2010، ص153.

(5)أمقدوف، مصطفى، وآخرون، الأخلاق الإسلامية ونموذج الوصاية: فلسفة طه عبد الرحمن في وجهات نظر مقارنة، دراسة منشورة ألكترونيّة، 2020، مجلد3، ص80.

(6) البقصي، مصدر سابق، ص43.

(7) قباري، مصدر سابق، ص75 ـ76 ـ 77.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد السمناوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/01/15



كتابة تعليق لموضوع : المنهج التاريخي لنشأة الأخلاق وجذورها عبر الماضي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : السيد الدكتور ياسين الحسيني ، في 2024/01/20 .

حبيبي شيخ محمد احفظ هذه القاعده المهمه لأنها ستوضح لك امورا"كثيره :الفلسفة بنت الدين وأم العلوم. والبعض يذكر امومتها للعلم وينسى بنوتها للدين، وهذه المقوله معروفه عند الكبار من الفلاسفة مجهوله عند غيرهم، فلولا الاديان لما كانت هناك فلسفه يونانيه او غيرها. والحمدلله تعالى.

• (2) - كتب : محمد طاهر العصفور ، في 2024/01/20 .

سهرة جميلة مع الاخوين العزيزين سماحة الشيخ محمد السمناوي والدكتور محمد حسين بزي
لايترك سماحة الشيخ السمناوي مائدة اللقاء تذهب سدا ، دون ان يمدنا بما يطوف به من تطواف في بطون الكتب ، بل إبحار في أمهات المصنفات ، وقد جعله ولعه بتتبع الظواهر أن يجتهد في التأصيل على مستوى الاديان والاخلاق والافكار ، ولقد حاولت جاهدا أن أنقض هذه الطريقة في اتجاهه المعرفي ، الا أنه متشبث بها حد التشبث ومقتنع بها اقتناع الظامىء بشرب المعين ، والحق أني أكبر فيه هذا الانصراف الى قناعاته وفي كل اقتدار ، والحق أو هذا التوجه الذي يتملكه توجه حقيقي ، جعله يعمل ليل نهار ولايفارق الدرس والبحث حتى أنجز الكثير من الكتب ومن الابحاث التي أنجزها بحث طريف ، وهو الصيغ التي جاء بها اسم ابي جعفر في كتب الرواية والاخبار والتراحم والطبقات ، محاولا الكشف عن صيغ ابي جعفر مما قصد ابا جعفر الباقر عليهما السلام وأبا جعفر الطبري وأبا جعفر النحوي الرؤاسي وكانت نواة هذا البحث أفكار احد اساتذته الكبار في البحث الخارج ، .

غير أني اختلف معه في الاتجاه الانثربولوجي الذي ينتهجه في دراسة الافكار ، والحق ان تاريخ الافكار تاريخ متغير وليس ثابتا ، وكل علم او ظاهرة تتغير وفق حدود الزمان والمكان ، وعلى سبيل التمثيل فان الحكمة في مباحثها وصلب موضوعها في الهند شي وعند قدماء المصريين شيء وفي اليونان شيء اخر ،
والموضوعات تختلف باختلاف سياقاتها التاريخية والاجتماعية ، ويداخل الصديق الدكتور بزي ان تاريخ الافكار يجب ان يؤصل انسانيا وليس دينيا ، .

وأسجل بعض الملحوظات هنا في ان دراسة الاثار التي وصلت الينا عبر الترجمة ، هي لاتمثل في حقيقتها الافكار التي تداولها اهلها ، خذ مثالا ان السريان ترجموا تراث اليونان الينا عبر مدى غير معروف من المآلات اللغوية والعلمية ، ثم ان هذه النصوص التي ترجمت ترجمت في وقت انفجار معرفي وثقافي وتلاقح افكار ، ولا اعتقد ان النصوص المترجمة التي ازدهرت حركة نقلها في عصر المأمون كانت تمثل الفوج الاول ولا حتى عصر الفيلسوف الكندي ، بل ما يحتمل حدوثه هو انتقال مقولات ، عبر التجار او الرحال وغيرهم عبر مقاهي البصرة القديمة ، اذ كانت تمثل ملتقى كبيرا من ملتقيات الافكار والاداب ، بين حضارات الشرق او ما وصلها من أفكار أثينا ،
وعليه فان النصوص التي وصلت الينا تعد متأخرة نسبيا ، وان هذه النصوص كانت في بعض نقولاتها مشوهة ، وان هذه النصوص نقلت بخلفية اسلامية لا اغريقية او هندية




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net