صفحة الكاتب : محمد الدرقاوي

الله يرحم عمي سليمان 
محمد الدرقاوي

كنا إذا التقينا، فتح لي أحضانه من بعيد، مهرولا الي بعناق ، مصرا على أن يلثم جبهتي ويقبل يدي، حتى إذا قلت له : "استغفر الله يا رجل"حرك رأسه في عصبية يمينا ويسارا، بعد أن يكون قد شد عليه بكلتي يديه، خوفا على رأسه من السقوط أو محاولة  لاسترجاع سواد عينيه الذي يختلط ببياضهما، ثم يضمني إليه كمن يستمد من صدري شيئا أو يريد أن ينفث فيه مما يتوهمه في صدره هامسا في أذني:

ـ أنت من سلالة النبي، وتحمل كتاب الله، واني أعرف عنك ما لا تعرفه عن نفسك. الله يرحم عمي سليمان ـ[ والدي]

كثيرا ما كان يغريني بالانضمام إلى إحدى الجماعات الإسلامية :

"شيخها صار صاحب  الوقت ،ومريدوها في حاجة لما يخفيه هذا الصدر..هذا راه جهاد في سبيل الله ".

كنت أرده بالقول ضاحكا:

ـ لا إله الا الله  .. لو كنت راغبا فيما تقول فالأولى أن ألملم أفراد عشيرتي وأحيي طريقة أجدادي، الزمن  يتغير، والوطن في حاجة إلى العاملين الفاعلين الذين يخلقون مناصب للشغل، ومعامل لتحريك الاقتصاد ودواليب  التنمية ، ذاك زمن قد  ولى،وأفضل جهاد، جهاد النفس ضد أمراض الحياة .

كنا نفترق بالأحضان كما نلتقي بالأحضان، أبتعد عنه خطوات وصوته يرن في أذني بعد أن يشيعني بضحكة لا يتقنها إلا هو:

ـ الله يهديك، فكر مزيان، الله يرحم عمي سليمان..

صاحبي هذا غاب فجأة، و عني غابت  أخباره مدة ليست بالقصيرة، إلى أن صادفت أحد معارفه الذي" نورني" بمساره الجديد فقد ترك جماعته، وانتمى لأحد التيارات السياسية الناشئة، وهو منشغل بالانتخابات مرشح عن إحدى المدن طامعا في مقعد بالبرلمان .

كنت أعرف عن هذا الرجل أنه يمثل "اهبل تربح،" وقد كان والدي يرحمه الله يطلق عليه"هبَّ  الريح"و"براح رجال الله"، فهو حاضر غائب ، حال مرتحل بين الأضرحة والأولياء والصالحين بقدر ترحاله بين الجماعات والطوائف، موجود أنى كانت الزردة وحضرالسخاء، وأنى كانت الهبات والعطايا.   

أمس تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أقاربي بالمدينة القديمة،  أبلغني ان صاحبي يسأل عني و يريد أن يراني ..انتظرته شهرا بالتمام والكمال بعد تلك المكالمة ـ هبة ريح لا تستقر في مكان ولا تحس بزمان ـ إلى أن كان يوم الجمعة الأخير.كنت خارجا من المسجد بعد صلاة الجمعة، رفعت رأسي لأجد صاحبي من بين المتدافعين للخروج، كانت عيناه مصوبتين نحوي في نظرة لم أعهدها فيه، هي مزيج من زهو وابتسام، كبرياء وتأنيب ،كان بيني وبينه أكثر من رجل، استبقته إلى الابتسام ريثما نتخطى باب المسجد إلى الشارع فيحضنني كما تعود أن يفعل .

كنت المتقدم إلى الخروج، تنحيت جانبا أنتظره، راعتني سمنته الزائدة وشعره المخضب بالسواد،أما لحيته فقد شذبت في أناقة ولم تعد كما كان يصفهاِ" قبضة يد نبوية ".

لم يعانقني أو يلثم جبهتي، ولا هَوى بشفتيه على يدي، فقد رفع رأسه في زهو دافعا بطنه الذي انتفخ، فارتفع جلبابه الرمادي من أسفل كاشفا عن سراويل النصارى كما كان يسميه .قال وكأنه يقرأ كلامه من كتاب:

ـ تعمدت ألا آتي عندك، لأني صرت أشك أن تكون أنت ابن عمي سليمان يرحمه الله ، ما الذي غيرك ؟

بهت، وقد أحسست أن الذي يكلمني ما عاد وديعا كما ألفته، لربما هي السياسة قد حنكته وأكسبته شجاعة ،ثقة وقدرة على رفع الرأس والمواجهة، تمالكت نفسي، وحافظت على هدوئي، فما زال لساني رطبا بذكر الله، وما زالت طمأنينة الصلاة تسري في أوصالي.قلت له بنبرة أحس وقعها:

ـ ألا تعانقني وتلثم جبهتي، حتى يدي ما عاد بعدك من  يقبلها سوى ابنائي؟ كم من خلق داهمه زماننا بتحريف أو تهويل ..!!

فاجأه كلامي فانتبه ،ترك نصف بسمة ترتسم على محياه ثم قال دون أن يرفع عينيه عن بلغته الزيوانية الصفراء :

ـ حتى أتيقن من إيمانك الذي ساويته بإيمان اليهود والنصارى، ماذا تقول إذا وقفت لرب العالمين؟ وكيف تهدم كل ما بناه سادتنا أجدادك الأولياء الصالحون؟

أدركت ما يعني وعما يتكلم، وبسرعة ربطت علاقة بين هذا الذي أمامي وآخر لا أعرفه ، كان قد ناقشني ، و بغلظة وتهجم  لا يخلو من سب وتكفير  عن مقال  كنت قد نشرته في إحدى الجرائد حول مفهوم الآية الكريمة  : "ان الدين عند الله الإسلام"  . سبحان مبدل الأحوال، فمتى شرع صاحبي يتعاطى قراءة الجرائد وهو من قال لي  مرة "احذر هذه السموم ،انها  تزيغ  عن  الدين ،يكفي سيدي ما في صدره "واتقوا الله ويعلمكم الله"..

كنت أعي أن صاحبي أعزل من كل معرفة عميقة، وأن كل زاده عن الإسلام شكليات مروية ،وطقوس متداولة، شطحات ومبالغات من مواسم الأضرحة وبعض رواة السير، يقيني بقصوره الفكري عن بلوغ عمق ما توخيته جعلني أتجاوز عن هجومه وأبادره بالعناق وأنا أقول:

ـ دعني أضمك وإذا أردت أن أوضح لك ما غاب...

قاطعني في هجومية مطلقة فاجأتني ، وكأن الحقيقة وحدها ما يقوله ويؤمن به :

ـ لا ليس قبل أن أتأكد مما عزمتُ على معرفته..

كان المسجد قد لفظ جميع  المصلين، ولم يبق ببابه غير جماعة من المتسولين، غرسوا رؤوسهم في قصعة كسكس، يتعجلون لقيماتها الحامية إلى أفواههم. أحسست شهية غامرة للُقيَمة من تلك القصعة، فرائحة السمن البلدي التي عبقت المكان، أثارت لذة فمي وشهوة بطني، فانشغلت عن صاحبي الذي كان يتكلم دون توقف. شريط مسجل، هو خليط من أقوال الصالحين، مقاطع من البردة والهمزية للبوصيري، أشعار لابن الفارض، توسلات من الملحون... إذ ما غزا أذن صاحبي قول مذ وعى الحياة إلا وتقيأه على وجهي وفي مسمعي، يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، يتراجع قدما ثم يتقدم أخرى..

أتعبني الوقوف،من محاضرة ببغائية بلا نهاية ، فأحسست جفافا في حلقي ويبوسة في فمي،رحى فمه تستمر في الدوران ،تقذف مطحوناتها، بقايا متحف متهاو مُنهار  من  سنة وشيعة وقدرية ودهرية، ومجسمة ومرجئة واسماعلية  بل لم يغب عنه حتى طاغوروبوذا دون وعي بالتناقض الذي يسقط فيه  ... و هو  يحصن كل ذلك  بآيات من كتاب الله  وأحاديث نبوية يجترها بلا دليل ولا وعي، كمن يستظل بشجرة لا ظل لها.

مسح المتسولون القصعة بأصابعهم، ثم تفرقوا بحثا عن غنيمة أخرى .

بقينا وحيدين وجها لوجه، وقد ارتفعت حرارة الزوال، وانخفضت حرارة المقال، توهم صاحبي أنه أقنعني وقد اطمأن إلى صمتي، فتربعت بسمة زهو وانتصار كل وجهه الناضح عرقا :

ـ ايه ما رأيك أليس الدين عند الله الإسلام  دين سيدنا  محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وما عداه باطل ومرفوض ؟

قلت وأنا أحاول إنهاء الحديث،يقينا أني و صاحبي" شرق وغرب وهيهات أن يلتقيا "

ـ رحم الله عمي سليمان  لقد علمني أن رسالة الإسلام تقوم على الألفة بين جميع الرسالات وان كلمة مسلم لا تعني مسلما في ديانة معينة بالذات بل تعني اليهودي والنصراني وكل من خضع لله ووحده ولم يشرك به شيئا، لقد غلبني الجوع ألا تتغذى معي؟

لم تجد دعوتي في نفسه صدى، ومع يقيني أن شريط محفوظاته قد توقف ولم يعد يستطيع المزيد لأنه أفرغ كل زاد الوفاض جددت دعوتي .

زفر من عياء أو من يأس ـ لا أدري ـ ارجع رأسه إلى الوراء، واضعا يديه على لحيته الخفيفة  يمسدها في عصبية ظاهرة، سامحا لبطنه أن يبرز أكثر ثم قال:

ـ الظاهر أننا في حاجة إلى وقفات أخرى ..

توقف قليلا كأنه يفكر فيما سيقول ثم تابع متصنعا الهدوء والانشراح:

ـ زرني في الرباط...أأ..ألا تشاهد جلسات البرلمان في التلفزيون؟

عاجلته برد وأنا أحاول التخلص منه وقد أدركت قصده:

ـ وهل يخفى القمر؟إمارة الدار على باب الدار.إلى اللقاء...

أسرعت الخطى إلى منزلي وأذني تلتقط آخر كلماته:

ـ راجع نفسك الله يرحم عمي سليمان..

رددت في عمقي:" يرحمه الله ويجعل الجنة مثواه، لقد استوعب دينه ودنياه فعمل لهما معا بشهادة عدلين: الكتاب والسنة وما عداهما فكر ورأي "


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الدرقاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/10/15



كتابة تعليق لموضوع : الله يرحم عمي سليمان 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net