اسس اصطفاء الافراد والجماعات في القرآن الكريم (13) التفضيل في المجتمعات2
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد عبد الستار الجابري

فنبوا اسرائيل في حياتهم في مصر تطوروا من الناحية الادارية، فتحولوا من رعاة للاغنام الى مجتمع متحضر، وفي المقابل تعرضوا لامرين سلبيين الاول تأثرهم بالعقائد والاراء الفاسدة للمجتمع المصري والثاني سيادة روح الذل والخنوع والعبودية نتيجة الظروف الصعبة التي عاشوها في ظل الفراعنة، فكان تطهير المجتمع من هذه الاثار السلبية يحتاج الى فترة نقاهة واعادة بناء الشخصية، وقد تكلفت بذلك سنوات التيه في الصحراء التي دامت اربعين سنة في ظل رعاية ربانية تم فيها تطهير المجتمع من الآثار السلبية واعادة تأهيله فكريا وتربيته تربية صالحة وتزويده بالقانون الالهي الذي سيكون المدار في تشريعات الدولة الجديدة.
وبقيام دولة التوحيد على يد انبياء بني اسرائيل ظهر الى الوجود كيان جديد في عالم الادارة والسياسة جمع بين سلطان الانبياء ومجتمع موحد، الا ان ذلك المجتمع لم يكن مجتمعاً معصوماً بل كان يتسم بالمظهر الايماني الكبير في حال تحلي معظم ابناء المجتمع والاحبار فيه بالتقوى والورع، او يتسم بالانحراف الفكري والعقائدي والبعد عن احكام الشرع اذ استعت فيه الرقعة لاهل البدع والضلالات ومحرفي الكلم عن مواضعه والمتلاعبين باحكام الدين، بل بلغ الطغيان درجاته الكبرى في استهداف الانبياء (عليه السلام) بالتكذيب والقتل.
وفي آيات الذكر الحكيم ما يشير الى ما تم تناوله من تفضيل بعض الامم على الاخرى بما لها من خصوصيات تؤهلها ان تكون في مسار تحقيق الوعد الالهي في تحقق الغلبة الالهية ووراثة الصالحين للأرض وان لم تكن تلك المجتمعات بذاتها تمتلك خصائص الرشد والهدى.
فمن تلك الآيات الكريمة التي تناولت مجتمع بني اسرائيل وتحدثت عن خصائصه الآية الدالة على اختصاص بني اسرائيل بالميثاق الإلهي وتوجيه الأمر لهم بالوفاء بالميثاق الذي بينهم وبين الله تعالى:
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾
وان الميثاق الذي طالبهم الله تعالى بالوفاء به هو الايمان بالنبي محمد (صلى الله عليه واله) وان وقد مر في موضع سابق الوعد الالهي على لسان موسى وعيسى (عليهما السلام) بالنبي الامي، وان ميثاقهم مع الله يقتضي ان يكونوا اول المؤمنين به وان لا يكفروا به وان لا يخالفوا التعاليم الالهية والدلائل الربانية بمتاع الدنيا مهما كانت قيمته لانهم عند المقارنة بالآخر سيكون ثمناً قليلاً، في اشارة واضحة الى ان من خصائص بني اسرائيل عدم وفائهم بميثاق الله وكفرهم بما انزل الله مصدقاً لما معهم، وسعيهم لتحقيق مكاسب دنيوية زائلة على حساب الحياة الآخرة.
﴿وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون﴾
الخاصية السلبية الاخرى لمجتمع بني اسرائيل كتمان الحق والباس الحق بالباطل واضلال الآخرين
﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون﴾
ثم امرهم القرآن الكريم بالعودة الى الاستقامة فدعاهم الى اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والالتزام باحكام الشريعة، ثم عرض بحالة التنسك الظاهري الذي يدعونه اذ يأمرون الناس بالطاعة ولكنهم عملياً مخالفين لما يدعون الناس اليه، وبين لهم القرآن الكريم ان طريق النجاة والفلاح يتقوم بالصبر والطاعة لله التي ابرز مظاهرها الصلاة ثم بين ان هذا الطريق صعب جداً الا على الخاشعين مما يمكن الاستفادة منه ان مجتمع بني اسرائيل كان الخشوع في وترتيب الآثار الواقعية من العبد على ما يتطلبه لقاء الرب لم يكن هو الحالة السائدة في بني اسرائيل:
﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ֍ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ֍ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ֍ الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون﴾
وبعد التقرير الواسع لحالة الانحراف التي يعاني منها مجتمع بني اسرائيل، ذكرتهم آيات الذكر الحكيم بالنعمة الالهية الكبرى حيث فضلهم الله تعالى على غيرهم من المجتمعات البشرية فبعث فيهم الانبياء وهداهم الى التوحيد فإمتازوا بذلك عن غيرهم من المجتمعات، ودعتهم الى التقوى وحذرتهم من الحساب في الآخرة
﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ֍ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون﴾
ثم ذكرتهم الآيات الكريمة بالنعم المادية التي تفضل الله تعالى بها عليهم اذ انجاهم من الذل والهوان وسفك الدماء الذي كان يرتكبه الفراعنة بحقهم، وكيف ان الله تعالى انقذهم بطريقة اعجازية اذ فرق بهم البحر فانجاهم واغرق آل فرعون
﴿وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ֍ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون﴾
وذكرهم ما اقترفوه من جرم عظيم بعد ان انجاهم الله تعالى من ظلم الفراعنة اذ اتخذوا العجل الهاً يعبدونه من دون الله ثم عفا الله عنهم بعد ذلك لعلهم يشكرون
﴿وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ֍ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون﴾
ثم يذكر الله تعالى النعمة التي انعهما عليهم على الرغم من عبادتهم العجل، وابتعادهم عن السبيل الذي اختاره الله لهم، اذ ارسل لهم على يد موسى (عليه السلام) التشريعات الإلهية التي تؤهلهم ليكونوا افضل امة متحضرة، فهم قد تعلموا عبر حياتهم الممتدة لقرون مع الفراعنة فنون البشر الإدارية، وجاءهم موسى (عليه السلام) بالقوانين الإلهية التي تضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة
﴿وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون﴾
ومع التطور الذي حصل في حياة بني اسرائيل العملية اذ جاءهم الكتاب الحاوي على القوانين الكاملة التامة التي تمكنهم من ادارة البلد على اساس ما يريده الله تعالى، مع بناء شخصيتهم الإدارية بما حصلوا عليه من الحضارة المادية المصرية، كان لابد من تطهير المجتمع من رواسب الحضارة الفرعونية التي اصبحت عائقاً أمام تطور بني اسرائيل ورقيهم، فصدر الأمر الإلهي بتطهير المجتمع لذاته من اسباب الانحراف المتأصلة التي لا علاج لها سوى الاقتلاع من الجذور كما اقتلع اسباب الفساد على الأرض في أقوام نوح وهود وصالح ولوط، فإستجاب بنو المذنبون من بني اسرائيل لدعوة موسى (عليه السلام) فقتلوا انفسهم، وطهروا المجتمع من خلفياتهم الثقافية ذات النزعة الشركية، وهذه ميزة لمجتمع بني اسرائيل عن المجتمعات الاخرى، اذ اطاعوا الله في ما امرهم وحرصوا على سعادة مجتمعهم وقدموها على مصلحتهم الشخصية في البقاء على قيد الحياة.
﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم﴾
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat