صفحة الكاتب : يحيى غالي ياسين

ماذا يعني أن تكون في سنّ الأربعينـ ( يات ) ..؟
يحيى غالي ياسين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

العمر هو رأسُ مال الإنسان ، وبالنسبة إليه هو رصيد معرفي في تصاعدٍ ونموّ مستمرّ ، وكذلك هو تأريخه الذي يخطّهُ بيدهِ ويزداد كل يوم صفحة ..

هو أشبه بالقطار ، له نقطة انطلاق وله نقطة وصول وبينهما يمرّ بعدد من المحطات .. وكلُّ محطة تمثّل مرحلة عمريّة معيّنة..

ومرحلة الأربعين ( عقد الأربعين ) من المراحل المهمّة وتمثّل منعطفاً مفصلياً وموعداً لنهايات وبدايات الكثير من الحيثيات التي تتعلّق بعقلّ الإنسان وروحهِ وجسدهِ وسائرِ شؤون حياته ..

وصفها القرآن الكريم بأنّها مرحلةٌ يبلغ فيها الإنسان أشدّه ، قال تعالى ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الأحقاف ١٥

ينظر صاحب الأربعين بعينين ، عين تستصحب ذلك الأمل الذي عاشه في أيام مراهقته وشبابه والذي لا حدود له في الحياة ، وعين أخرى طرقت باب الكهولة على استحياء وبدأت تُبصر ملامح النهاية وعلامات الرحيل وإن كانت بعيدةً بنظره نوعاً ما .. عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده ..

ويشعرُ صاحبُ الأربعين أنّ كلَّ شيءٍ باتَ جادّاً ، وأنّه يعيش الفرصة الأخيرة والأخيرة جداً للتكوين والبناء وترتيب أوراق الحياة والإستقرار على جادّةٍ وإتجاهٍ معيّن ..

لا يغفر لنفسه الخطأ ، ويعلم أنَّ الآخرين كذلك لا يبررون له أخطاءَه كما كانوا في السابق .. يقول صادق العترة : " إن العبد لفي فسحة من أمرهِ ما بينهُ وبينَ أربعين سنة ، فإذا بلغَ أربعين سنة أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى مَلَكيه : إنّي قد عمّرت عبدي عمرا ، فغلّظا وشدّدا وتحفّظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره " ..

في عقد الأربعين يبدأ الشخص بوضع الدرجات النهائية للكثير من الامكانيات والصفات التي يتحلّى بها ويكون عندها صريحاً مع نفسه غير معاندٍ لها .. مما يجعلهُ أكثر إدارة لها في مختلف الأوضاع وفق النتائج المتحققة ..

لذّة الشباب التي كان يستطعمها بعين الآخرين بدأت تُستبدل بلذّة التوقير والإحترام ..

بدأت إعداداته تتغير ، مقياسُ صبرهِ وتحملّهِ ورباطة جأشهِ أفضل عن ذي قبل ، درجة زهدهِ ببعض الأشياء وقلّة إهتمامه ببعض المتعلقات في تحسّن .. هو في إكتشافٍ لنفسهِ أكثر من إكتشاف ما حوله كما كان ..

الأربعون سنة بداية للمعايشة مع جيلٍ جديد له من الطباع والثقافات وطريقة لفهم الحياة تختلف بدرجة واضحة ، مما يجعله يعيش بداية حالة من الغربة وعدم الانسجام التام الا ضمن دائرة أقل قطراً من السابق .. وهذا القطر في تناقصٍ مستمر ..

قوّة الشباب ودوافعه العالية التي لو أُستثمرت لحلّقت بصاحبها إلى أعلى الدرجات وأرفع المستويات ، هذه الميزة يعمل ضدّها ويعطلّ عملَها ونتائجَها نزقُ الشباب وانفجار الغرائز والشهوات ..

أمّا رشدُ الكهولة والتحرّر من موانع الشباب عند التقدم في العمر يمانعه ضعف القوى وتراخي العزائم وانطفاء تلك الجذوة المتقدّة .. قال تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم ٥٤

في حين تجتمع كلتا الميزتين في سنّ الأربعين ، أي قوّة الشباب ورشد الكهولة ، وهما جناحا التحليق في سماء المعنى وأعلى مراقي الدرجات والتي يستطيع عندها تعويض ما فاته ويعدّ العدّة لما يأتيه ..

أضف إليهما غنى التجربة ورصيد المعرفة .. فيتشكّل مثلث النجاح ( قوة وعزيمة - رشد وتحرر من ضغط الغرائز - رصيد معرفي ) .

فمقوّمات النجاح والتفوّق متوفرة بأفضل حالاتها في عمر الأربعين ، وعدم استثمارها يعني الحكم النهائي بالفشل وقراراً قطعياً بالخسارة ، ولهذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره شره قبّل الشيطان بين عينيه وقال : هذا وجه لا يفلح " ، وعنه (صلى الله عليه وآله) : " من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهز إلى النار " .

وقيل /

وإذا مضى للمرءِ من أعوامهِ
خمسون* وهو عن الصبا لم يجنح

عكفت عليه المخزيات وقلبه
قـد أضـحكتنـــا سيــرة لا تبـرح

وإذا رأى إبليس غرة وجههِ
حيّا .. وقالَ فديت من لم يفلـح


لا تشكّل مرحلة منتصف العمر أزمة - كما تشير بعض التقارير - بقدر ما تشكل مرحلة إصدار هوية جديدة للشخص بعد نفاذ صلاحية هويته السابقة ..

فالهوية السابقة كانت تصفك كإبن ، أما الآن فأنت أب .. وعشرات الأصدقاء لم يبق منهم إلا واحد او اثنان .. وربما عبارة ( قام فلان بتغيير صورته الشخصية ) هي الأنسب لهذه المرحلة بعد أن قام صالون العمر بإجراء بعض التعديلات الخاصة به ..

تبدأ الأزمة عندما لا تتعامل بواقعية مع شخصيتك الجديدة ، وكما أن مقاسات ملابسنا بمرور الوقت تصبح ضيّقة وغير مريحة لأجسامنا ، كذلك علينا تغيير بعض مقاسات تصرفاتنا وأنماط حياتنا .. كي لا تكون مصدر قلق وسبب أزمة ..! عن أمير المؤمنين ؏ : " المرء ابن ساعته " .

ثم أن ما ينبغي أن يكون عليه ابن هذا العمر - مستفيداً من خبراته - هو تغليب النوع على الكمّ ، وتقديم لذة القناعة على الشره ، فأقل مجهود بحسن إدارة وتدبير ربما يكون ذا أكبر انتاج وأعظم ثمرة .. عن الإمام علي ( عليه السلام ) : " إنما أنت عدد أيّام ، فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك ، فخفّض في الطلب وأجمل في المكتسب ".


وكثيراً ما أقارن نفسي بأبي أو أخي الكبير أو عمّي .. عندما كانوا بعمري الآن .. وكيف كنت أنظر اليهم ، بأي شخصية وأي صورة ..! لكي أعرف كيف ينظر إليّ أولادي أو من يصغرني عمرا ، وبصراحة تكون النتيجة صادمة عند المقارنة ويظهر أنّ إحساسي بعمري الآن هو دون الواقع بكثير ..! فهذه طريقة نافعة لأن ينظر الشخص الى نفسه بعمره الحقيقي ويتصرف على أساس ذلك ..

ثم أننا - أبناء عقد الأربعين - لو قارن بعضنا عمرَه مع معدّل عمر آبائه الذي ماتوا فيه ، لكانت النتيجة أكثر صدمة بصراحة .. ونعلم عندها مدى أهمّية السنة والشهر واليوم بل الساعة والدقيقة التي تنقضي .. وسنعرف عندها عظمة كلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " يا أبا ذر ، كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك " ، وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " ليس شئ أعز من الكبريت الأحمر إلا ما بقي من عمر المؤمن ".


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


يحيى غالي ياسين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/05/14



كتابة تعليق لموضوع : ماذا يعني أن تكون في سنّ الأربعينـ ( يات ) ..؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net