صفحة الكاتب : نجاح الجيزاني

 حكايته لا تشبه الحكايا، قصة التحاقه هي الاخرى يكتنفها سرٌّ  بقي طي الكتمان الا عن ذاته، هل باح بسرّه لأحد ياترى؟ 
لا أحد يدري.. 
اختياره للقنص دون غيره له شغف خاص، تفرّد به دون أقرانه ومجايليه، الجميع اعترض على هذا الاختيار حتى آمر اللواء نفسه حاول ثنيه عن هذا الامر، لكن محاولاته باءت بالفشل، لقد أصرّ الفتى ذو الثمانية عشر عاما على قبول التحدّي.. فكان له ما أراد. 
_ منذ نعومة اظفاري وانا  مولع بتسديد الأهداف.. هكذا وبهذا التبرير البسيط استطاع أن يقنع آمر اللواء بقبوله للانضمام في كتيبة القنّاصين. 
عرفته شاهقات الجبال وسهول الوديان وكل قصبات الوطن الممتدة على خارطة الجرح النازف، فهو أصغر القنّاصين عمرا وأكثرهم جسارة وجرأة، وكل ساحات الجهاد تحتاج الى شجاعة قلب؛ تقلب موازين القوى، وتنهي الوجود المسرطن لداعش.. فكان مسلم لهم بالمرصاد. 
هل كان يشبه القاسم بن الحسن عليهما السلام في الشجاعة والإقدام؟ 
سؤال لطالما ألح في خاطري وأنا أقلب ارشيفه المتخم بالفخر.. نعم القاسم في جبهة الحسين كأصغر مقاتل بين يدي عمّه سيد الشهداء، بارع في حصد رؤوس أعداء الدين والانسانية، عمل فيهم بسيفه دون اكتراث منه لعددهم،كذلك قناص الحشد (مسلم عقيل ) على صغر سنّه كان كارثة في حصد الرؤوس، كما وصفه أصدقاؤه.. لم تخطىء أهدافه قط، ولم ينج من رصاصاته داعشي قذر، انه ابن البصرة الفيحاء مسلم. 
لكنّ دعاة الدين المتأسلمين لم يسلموا من صولاته وجولاته في جبال مكحول وحمرين  وجرف النصر وساحات بلد.. رصاصات قنصه لم تخطىء اهدافها المنشودة، فكان يوردهم حر الجحيم بأصبع زناده الذي لم يذق الراحة طيلة تواجده في جبهات القتال. 
اما في الثرثار فقد أبلى فيها  بلاء حسنا، حصد الاهداف بدقة، لم تفل عزيمته عن المضي قدما نحو أشرس المعارك وأعظمها على الاطلاق، نودي عليه من اجل تحرير جبال مكحول، تلك البقاع المأهولة بجرذان داعش، فلبّى النداء كفدائي متمرّس نذر روحه لأجل الوطن فيقول :
_ في بداية التحاقي بجبال مكحول كان التعرض خفيفا من قبل العدو، كنت برفقة اثنين من الاخوة، لكنّ التعرض بدأ يشتد رويدا رويدا آخر النهار، الهاونات الثقيلة بدأت تصب على رؤوسنا.. فقدنا اثنين آخريْن من إخوتنا المجاهدين ممن كانوا يرابطون في الموقع المجاور .. زحفتُ نحوهما استطعت ولله الحمد أن آتي بالشهيد الأول، ثم عدتُ ثانية لأجلب الشهيد الثاني، حملته على ظهري وإذا بداعشي يخرج رأسه من البزل القريب من موقعنا، فوجّه ثلاث رصاصات نحوي اخترقت الأولى مفصل حوضي، واستقرت الثانية في بطني، اما الثالثة فأصابت رجلي، فلم أقوَ على السير، سقطتُ الى الارض، والشهيد ما زال محمولا على ظهري، حتى خلتُ نفسي أنني ميت لا محالة، بقيتُ على الأرض لعدة ساعات دون حراك، وفي كفّي رمّانة يدويّة تحسّبأ لأي طارىء.. الغريب في الأمر أنّ الدواعش جاؤوا إليّ بعد انتهاء التعرض وسكوت المدافع والهاونات، نظروا إليّ ثم تركوني، ظنّوا بأنني ميت لكنها إرادة الله أنقذتني من براثنهم، وإلا بماذا أفسر انصرافهم عني وأنا جريح؟! 
هنا فقط تنساب المشاعر فيضا تحنانا، وأنا أحاول ان اكتب سيرة شهيد حي لم تزل انفاسه شاكرة لمولاه، اذ أبقته يد القدرة كي يكون شاهدا على ظلم الجناة، وشهيدا حيّاً لم يخسر النزال أبداً. 
لقد نجا باعجوبة... ربما هي الغشاوة التي غطّت أبصار القوم، فما عادوا يرون أبعد من أرنبة انوفهم، أو ربما هو مقدّمة اختبار جديد ينتظر بطلنا القنّاص.. مَن يدري؟ كل الاحتمالات واردة ومفتوحة على مصراعيها. بعد أن أسدل الليل ستاره، أراد (مسلم) النهوض من مكانه، لكنه لم يفلح، هل فقد القدرة على القيام يا الهي؟! 
شاب في عمر الزهور أنى له العيش بلا قدمين؟ 
وكيف يسرح في الارض وهو المتأهب دوما في قطع المسافات نزولا وصعودا؟! 
أيّ اختبار عظيم هذا الذي ينتظره؟!
 حاول النهوض ثانية وثالثة لكن دون جدوى.. فارتأى أن يزحف شيئا فشيئا في هذا الليل البهيم دون أن يعرف وجهته، لقد أخذ الجوع والعطش مأخذه، ومع النزف المستمر استطاع أن يزحف من الساعة السابعة ليلاً الى الخامسة من فجر اليوم التالي، لكنّ الارادة الالهية عادت ثانية لتعمل عملها بابن آدم.. فها هو الصباح قد طلّ بضيائه على المعمورة، يكتنفه الضباب الكثيف مصحوبا بزخات المطر، قد رسمت بأجمعها لوحة فسيفساء جميلة أخّاذة، تذود عن بطلنا المغوار، وتعمي عيون العدو عنه، وهو لم يزل يزحف ويزحف ولسانه لم يفتر عن نداء : لبيكِ يازهراء لبيكِ يازينب، أخيراً وصل.. الّا أنّ رصاص  إخوته لا زال يتطاير  ظنّا منهم انه من المتسلّلين ربما، لكنّ ارادة الله الغالبة قيّضت لبطلنا أحد الشبّان ممن كانوا على صلة به في بعض المواقع، فقال لهم :
_ لا تطلقوا الرصاص توقفوا انه السيد مسلم احد اخوتنا المجاهدين.
وهكذا نجا بطلنا القنّاص، إلا أنّ الغصة التي آلمته كثيرا وبقيت تحزّ في نفسه: لَكَم تمنّى لو أنه حصل على مباركة والديه ورضاهما على التحاقه بالجبهة.. لكنها بقيت أمنية شائق يتمنّى، وهو سرّه الذي أفصح عنه في اللقاءالأخير . 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نجاح الجيزاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/20



كتابة تعليق لموضوع : القناص
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net