صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

قراءة في المجموعة الشعرية (ترنيمات)
د . محمد تقي جون

نقرأ هذه الايام شعراً نطمئن الى تسميته (شعر ما بعد قصيدة النثر)؛ لأنه خروج عن الشعر وشعر النثر كليهما، فهو جنس ثالث لا ينتمي الى الشعرين.
ان سيادة ما عرف بـ(قصيدة النثر) عالميا يبررها أن الشعر الغربي كان يكتب على هذه الشاكلة قديما، وعليها كتبت الكتب السماوية كالتوراة والانجيل والافستا، وكتبت الملاحم كالالياذة والاوديسا، وكذلك مسرحيات سوفوكلس وهوريبيدس وسواهما، حيث لا يوجد بحر شعري او قوانين محددة صارمة. وهذه الكتابات ولاسيما (نشيد الانشاد) و(مزامير داود) لم تقل ابداعا عن الشعر الموزون فيما بعد، لانها تقوم على موسيقى داخلية حقيقية تناسب لغاتها النبرية، فضلا عن الخيال والالفاظ الشعرية بانزياحاتها المبهرة ومعانيها الشعرية المقصودة.
وترى سوزان برنار في كتابها (قصيدة النثر) ان الوزن اضاف عبئا على الشعراء لانه يضطرهم الى الاختزال والمط في نطق الكلمات لاقامة الوزن، وللجاحظ كلام مشابه لكلامها في الشعر الفارسي العباسي الذي كتب بقوانين الشعر العربي الغريبة عنه. فكانت قصيدة النثر اعادة الامر الى نصابه، فهي لا تعدُّ انقلابا او ثورة شعرية، بل تغيير النظام لنظام أصلح بشكل سلمي، فالشعراء قبله كالشعراء بعده، والشعر قبله كالشعر بعده.
أما سيادة قصيدة النثر عربيا فتعود الى قصور واضح من الشعراء المعاصرين في كتابة (قصيدة عربية ناجحة) بسبب المتطلبات الكثيرة التي تتطلبها والتي اصبحت من الصعب تحقيقها في الابداع الشعري وهي: نظام الشطرين والوزن والقافية واللغة الشعرية المغايرة للغة الحديث اليومي، وكانت الاجادة مع هذه الشروط متاحة ما توفرت الثقافة العربية الضخمة، وهو امر بدأ يتراجع منذ منتصف القرن الخامس الهجري بهيمنة السلاجقة الترك على السلطة وتراجع اللغة العربية، وصار الشعراء تحد تلك القوانين من ابداهم الشعري. وقد أشر ذلك الدكتور علي جواد الطاهر في كتابه (الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي) ودرس الدكتور عبد العزيز الاهواني (ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر). ووجدتُ في دراساتي لشعراء تلك الحقبة ان الشاعر تشتهر له قصيدة او اكثر في مجمل شعره؛ فالطغرائي شعره الجيد يتمثل بلامية العجم وأبيات قليلة في الزهد، ولم استسغ من شعر الارجاني بمجلداته الثلاثة غير ابيات من مقدمة لإحدى قصائده يصف الشمعة. وقد اثبت واقع الشعر الحداثي ان كتابة قصيدة عربية ناجحة يحتاج الى ثقافة عربية واسعة وعريضة وموهبة خاصة متأثرة بالتراث الشعري القديم. 
وكانت ضخامة الثقافة العربية والشعرية قد حققت عودة الابداع الشعري بمستوى معين في (عصر النهضة) بظهور شعراء درسوا التراث وتمكنوا منه بقدر صالح واستلهموه في كتابة الشعر، فجاؤوا بقصائد رائعة مقبولة هي امتدادات للقصيدة العباسية التي تأثروا بها واستعادوها ومنهم: محمود سامي البارودي واحمد شوقي والجواهري. ثم عاد الشعر الى الشحوب بانحسار موجة الثقافة العربية الاصيلة وطغيان ثقافات اجنبية استحوذت على الاجيال اللاحقة الى اليوم، وانتهى ذلك الشعر على يد ساقة الشعراء المقلدين كالرصافي والزهاوي وحافظ ابراهيم، حتى عدنا او كدنا نصل الى (الصفر الشعري) وفي هذا الصدد يقول الشاعر حسين القاصد (نعم لي اضافات على القصيدة العمودية ، لكن لا تجديد ولا مفهوم للتجديد ولن يكون في هذا المضمار، فبإمكان قصيدة لابي تمام او المتنبي ان تنسف كل دعوى للتجديد ، لذا اعيد واكرر قولي نحن منحنا القصيدة العمودية فرصة المواكبة بعد ان جمدت وماتت ملامحها واصبحت اشبه بالأثار على ايدي شعراء القصيدة العمودية الذين سبقونا ولا اظن ان متلقيا يستطيع ان يجلس منصتا الى نهاية قصيدة يلقيها محمد حسين ال ياسين، وهو يمثل اخر الذين اعتاشوا على الموروث دون المواكبة على الرغم من ثقافته الواسعة لكن موهبته لا تتجاوز ما قاله) .وهذا دعا الى البحث عن الابداع الشعري بعيدا عن التراث العربي وشروط الشعر العربي، فسقطنا في هوة تقليد الغرب واستيلاد جنين شعري خارج رحم المنظومة العربية.
والامر يصدق على الجمهور وهو الركن الثالث للإبداع الشعري: الشاعر + القصيدة + الجمهور. فالجمهور تغيرت ذائقته لتغير ثقافته، لا نقول انه لا يتقبل الشعر العربي الاصيل اذ اثبت الواقع خلافه، ولكنه صار يتقبل القصيدة المتأجنبة ويتفاعل معها. وقد سبقت تيارات شعرية في الدخول الى العالم العربي والمشهد الشعري كالرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها، نقرأ ذلك في شعر مدرسة الديوان والسياب وعلى محمود طه والشابي وشعراء المهجر. وقد تجلى ذلك في قوة العاطفة والكلام المهموس وعبارات مترجمة مثل (عروس البحر = Mermaid) فضلا عن الافادة من الخيال والرمز والمثولوجيا، وسهولة الالفاظ والمعنى السطحي، واللون المحلي والكلام اليومي. فأنتج شعر وسط بين التعرّب والتغرّب.
قلنا ان سيادة قصيدة النثر عالميا لا يعد قطعا بين الحاضر والغابر، بل عودة حنون لكلام الكتب المقدسة والملاحم والمسرحيات الشعرية. بينما سيادة قصيدة النثر عربيا قطعت الصلة بين الحاضر والتراث، وكانت انقلابا بل ثورة شعرية دامية نقضت الصرح الشعري العربي العملاق المحافظ عليه منذ زمان الجاهلية.
وجاء السياب بـ(شعر التفعيلة) ناقلا  (الشعر الحر = free poetry) وبعده تتابعت الانقلابات الشكلية بشكل متسارع مجنون، مثلما تتابعت الانقلابات العسكرية بعد انقلاب عبد الكريم قاسم، فكان السياب في الشعر كقاسم في السياسة. وقصيدة التفعيلة انقلاب شكلي لا مبرر له، فقد زُعم أنه يخلص البيت من الحشو، ويفك من أغلال القافية الواحدة القاتلة للابداع، فنحن نجد حشوا في شعر التفعيلة، مقابل ان من الحشو المزعوم في قصيدة العمود ما يضفي جمالية لا غنى فيها عنه. كما ان الغاء القافية الموحدة اوقع في فوضى الموسيقى في القصيدة، فمن اهم اهداف القافية الانسجام مع البحر الشعري وضبطه مع موسيقى القصيدة اجمع، أو موسقة القصيدة كلها وضبطها بموسيقى البحر، فتغيير القافية بشكل غير منضبط ومحسوب قاد الى تلك الفوضى الموسيقية، وقد نجح السياب وبعض جيله في كتابة قصيدة التفعيلة بما تمتعوا به من رهافة وضخامة موسيقية. فلما جاء من بعدهم فشل في كتابة قصيدة التفعيلة فماتت بعد وقت قصير، وصدق الجواهري العظيم في قوله بحقها: (شعر جميل ولكنه لن يستمر).    
وكانت (قصيدة النثر) أغرب شكل شعري قادم وابعده عن شعر العرب. والسبب انها لا تناسب اللغة العربية، وهي البناء التحتي للشعر العربي، وتناسب جدا لغات الغرب بل هي اصلح من الشعر الموزون كما قلنا. وتذكر سوزان ان الحدود بين الشعر والنثر في لغات الغرب شبه معدومة، بل انت لا تدري هل القائل يقول شعرا ام نثرا!! ولم تستطيع قصيدة النثر العربية، ولاسيما في مراحلها الاولى حيث لم تتعود عليها اللغة العربية والذائقة الجمعية، أن تحقق شروط الفن الشعري، وما وعدت به من تعويض ما تخلت عنه ولاسيما تحقيق الموسيقى الداخلية بدل موسيقى البحر وهو شرط مهم في الشعر العربي.
وهنا حدث العكس، فالذين تثقفوا ثقافة غربية ضخمة استطاعوا مع تمرين اللغة العربية وتطويعها من كتابة قصائد نثر مقبولة ان لم تكن جيدة بالفعل محققة لأكثر شروط الفن كما في قول عقيل علي من قصيدته (جنائن آدم) التي حملت مجموعته الشعرية عنوانها:
تتبعنا اشجارٌ لا تنكس ظلالها , انها لا تكرهنا
اشجار وتقاويم نفك فيها حبالنا , إننا لا نرحل
أرمي للكذبة رأساً من أجل أن تكون حانية
بينما الكلمات مجدبة , وهذا ما اعرفه
ولا ألوي شيئاً .
متأبطاً عنقي , مبعداً عني الخوف بالخشخشة ,
أحصي شبيهي الذي يأكل أحشائي ، شبيهي القاسي ,
أشحذ رماله , لا أمنحه رهبة الظهور
إني لملاحقك أبداً
بهذا وحده ينطق الصمت , لهذا وحده أعطي القوة
متى تنفض الروح رمادها ؟
وقد سادت مع قصيدة النثر مصطلحات: التكثيف والمفارقة والومضة والضربة وغيرها، كما في قول محمد الماغوط من قصيدته (الى بدر شاكر السياب):
أيها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبدًا
الجنة للعدائين وراكبي الدراجات
وقصيدة النثر تشظت الى قصائد نثر، فصارت انواعا لا حصر لها، فمنها ما يعمل على اللفظ والموسيقى الداخلية، ومنها ما يعمل على طاقات المعنى واشتغالاته الحداثية كقول الشاعر صلاح زنكنة:
حين يطرق الحب بابكَ
لا تفتحه
قل أنا غير موجود
سيقول أني أسمع صوتكَ
وأتحسس نبضات قلبكَ
قل متبجحا
هذا ليس صوتي
أنه صداي
وقلبي مشغول
لكن أنتبه جيدا
قد يباغتك من الشباك
وحين تنام
احكم أغلاق الأبواب والنوافذ
وتدثر بلحاف الصمت
وآياك أن تصغي
لأم كلثوم وفيروز
ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي
فالحب يعتلي صهوة أصواتهن
ويزوركَ مكللا بالوجد
ومتوجا بقصائد الشعراء المجانين
ها أنا قد حذرتكَ
الحب على بابكَ
الحب قرب نافذتكَ
الحب جنب سريركَ
الحب جوار قلبكَ
الحب ليس أعمى
الحب لديه كل الحواس
ومنها من يعمل باشتغالات اخرى كالمفاجأة والادهاش والسيميائية وغيرها، اذكر في التسعينات التقيت شاعرا نثريا، قال: انا اكتب وفق الاسلوب الفرنسي، فقصائدي قد تكون سطرا او نصف سطر او كلمات قليلة، واضعها اسفل او اعلى او وسط الصفحة، واترك الورقة اكثرها ابيض وفق دلالات سيميائية قصدية. وقال خذ مثلا (أنا لحظة أبحث عنها) هذه قصيدة!! وقرأ لي غيرها وانا زائغ البصر حائر الفكر، وقلت له: بصراحة اقول لك: لم يصدق المتنبي حين قال (أنام ملء جفوني عن شواردها)، المسكين كان يسهر الليل ويكمل النهار من اجل شعره، وشعراؤكم هم من ينام ملء جفونه تماما في كتابة الشعر.
 ولم تكن (قصيدة العمود) المعاصرة ومثلها (قصيدة الشعر) التي سادت في التسعينات ضدية بقصيدة النثر، امتدادا او وريثا للقصيدة العربية الجاهلية والعباسية، فهي لم تجسد المفاهيم الشعرية لـ(عمود الشعر)، ولا كانت مطبقة لشروط القصيدة العمودية العربية بشرطها وشروطها كنظام الشطرين والوزن والقافية واللغة الشعرية، فهي مكتوبة بشطرين ولكن ليس بآلية الشطرين العربية التي تعني تقسيم الفكرة بين الشطرين، بل نجد قصائد لا يوجد فيها ترابط بين الشطرين كقول عارف الساعدي:
للشمس في كفيك سرُّ    يقف الزمان وتستمرُّ
وقصائد اشتغلت على آلية التكثيف والتركيز فجاءت بصور شتى في كل شطر عدة صور وافكار كما في (لزوميات خمسة ميل) للشاعر علي الامارة. والامثلة كثيرة حتى ان الشعراء صاروا احيانا يكتبون البيت العمودي على شكل شعر التفعيلة موزعين البيت حسب كل معنى فيه فنراه يتكون من فقر عدة.
وما يخص اللغة الشعرية، لا توجد مقارنة بين القصيدة العربية القديمة وقصيدة العمود، فالقصيدة العربية حرصت على لغة شعرية مميزة ترتفع عن تعابير العامة واسلوبهم الهابط، بينما القصيدة العمودية كتبت باللغة الشعرية ذاتها التي كتبت بها قصيدة النثر، فكانت شكلا عربيا ومضمونا حداثياً. 
الا ان قصيدة النثر التي هرب اليها الشعراء استسهالا وخلاصا من الوزن والقافية عادوا فوجدوا شروط الابداع والتميز والقبول بها صعبة. وسمعت من كثيرين كتبوها واردوا ان يكتبوها (انها اصعب من العمود)، وصرنا نسمع بعد الفشل الذريع الذي صادف من انشدها على المنصة (قصيدة النثر قرائية وليست إلقائية). 
وقاد استبدال البضاعة الشعرية العربية بالبضاعة الاجنبية الى ظهور ما عرف بـ(اجيال الشعراء) جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل التسعينات... كما وضع الشعراء امام مفترقات طرق متشعبة لا حصر لها، واتجاهات متداخلة في كثير من الاحيان. واذا قرأنا قصيدة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد (يا شيخ شعري) وقارناها بقصيدة (الى ولدي الجواهري) للشاعر حسين القاصد، نجد الاختلافات الجوهرية بين شعر القصيدتين.
قصيدة عبد الرزاق مضبوطة، ملمومة لفظا ومعنى وموسيقى. فالألفاظ مختارة شعريا، وليس فيها انزياحات بعيدة، والعلاقات بينها مألوفة في الاستعمال مع التغيير المبدع الرائع غير المنفلت او الاعتباطي كقوله (ويلطمُ الجبلَ الجلمودَ مُحتَربا) والمعاني مقصودة، مبتكرة، عميقة، ومحددة في ذهن الشاعر، وهي لابسة لالفاظها بشكل تام. وجاءت القوافي منسجمة مع جرس الالفاظ وموسيقى بحر البسيط بشكل محكم جعل القصيدة مسبوكة سبكا، ملمومة في ذهن المتلقي غير خارجة عن سيطرة فهمه. 
وقصيدة القاصد كتبت بتقانات أخرى فقد بنيت على (مفارقات لفظية) مثل (مذ أمل) = (مذ أجل او زمن) وتغريب الالفاظ، وبناء علاقات لفظية غير مألوفة مثل (غصن الغيم) (أخبز غيمي) (متحف الجوع)، والمعاني في اغلبها سطحية غير محددة لا في ذهب الشاعر ولا ستكون عند المتلقي مثل (أحمل شيب الكون في قممي) (نزفي نخيل) (حملت على رأسي الى قدمي) ونجد في القصيدة ظاهرة مكرورة في شعر هذا الجيل وهي (التصرف بالنص المقتبس حتى من القرآن) واعادة تشكيله لمعنى جديد، وكان الشعراء يقتبسون النص كما هو او يقتبسونه اشاريا مع الحفاظ عليه تاما، ومن ذلك في قصيدة القاصد (وقيل للماء كن مـــاءً فكان يدي/ وقيل للصبح كن صبحا فكان فمي) اشارة الى قوله تعالى (كن فيكون) وقوله (في قوله ( علم الانسان) كــنتُ أنا). وقوافي القصيدة غير منظمِّة لموسيقى القصيدة بفضل ما اعطاها من علاقات واسعة من الحرية، وبدت القصيدة دوائر تتسع اطرها وتخرج عن سيطرة الفهم الا الفهم العام دون التفصيلي، وهو ما نجده في شعر غيره اذ صار (نمطا جمعيا).
في قراءتنا للمجموعة الشعرية (ترنيمات) للشاعر عدنان الجزائري، الصادرة عن دار الفرات – 2023، نواجه شعرا يمكن تسميته باطمئنان (شعر ما بعد قصيدة النثر). أول ما يواجهنا حداثويا (العنوان) فترنيمات جمع ترنيمة والعرب لم يستعملوا ترنيمة للمفرد لذا لم يستعملوا ترنيمات أو ترانيم للجمع، بل استعملوا رنّم وترنم والمصدر ترنيما. ومفردة الترنيمة والترانيم لها مدلولها الشاعري في الادب الغربي الذي نقلناه ولم يكن عندنا من فحوى الترنيم الا ترجيع الصوت في الغناء.
المجموعة تمثل نمطا جمعيا مزدهراً من الشعر، يكتب مجاميع صغيرة كهذه المجموعة، ويكتب قصائد ضمن مجموعة. وهذا النمط له حضوره وجمهوره، وله نصيبه من الابداع والشاعرية لدى المشهد الشعري والمتلقي. ولكن قبوله ليس مطلقاً؛ فلا يزال جمهور قصيدة العمود والمثقفون ثقافة عربية المتصلون بالتراث لا يستمتعون بهذا النمط من قصيدة النثر أو غيره. وأنا هنا بصدد البحث في اليات اشتغال هذا الشعر من خلال هذه المجموعة الشعرية، وليس بصدد تقييمه والحكم عليه بقبوله او اقصائه.
أول ما نلاحظه في المجموعة قلة كلمات القصيدة، فهي تصل الى كلمة واحدة فقط:
(واشتعل - ص50).
وكذلك قوله:
(الليلُ
أسدل أستاره،
والصبحُ تنفس،
فمتى تفرحُ
العصافير؟- ص18)
ان توزيع الكلمات ليس حسب الوزن فالوزن معدوم، وليس حسب المعنى وتمامه، ولكن حسب مزاج الشاعر. لذا يأتي حرف جر ليس بعده مجروره، بل في سطر تال عليه، وهكذا (يا النداء) وغيره:
(ألهاكم الرقص
على
أجساد العابرين- ص 19) 
(يا. .
حسرتا،
على المتقاعدين. . – ص 25) 
ويأتي حرف العطف وحده في سطر والمعطوف عليه بعده في سطر:
(يستفزني
اثنان:
الليل..!!
و
عيناك..!!- ص 15)
بل توزع حروف الكلمة على اسطر:
(عذرا ، ، ،
فالقلبُ
يتسع لواحدة
ف
ق
ط – ص9)
ويستعمل الشاعر التغريب والمغايرة في استعمال الالفاظ، وهو امر معروف جدا في شعر الحداثويين كاستعمال عدنان الصائغ (تأبط منفى) بدل تأبط شرا أو شيئا، يقول عدنان الجزائري:
(أيها الأمل
لا أحدٌ يوصلك
لشاطئ السلام
حتى تتصبب
عشقا – ص 81)
ويغاير الشاعر في استعمال علامات الترقيم، كقوله:
(حين
تأبطتُ همومي.،
جئتك
راهبا ،- ص 16)
(، ، واشتعل القلبُ
حبا ، - ص 51)
فالنص الاول استعمل بعد همومي النقطة والفارزة، ولا مجال لاستعمال النقطة لان الجملة لم تنتهِ، ولكن الشاعر اراد اضافة معنى بالنقطة. وفي النص الثاني وضع فارزتين قبل الكلام مشيرا الى وجود جمل محذوفة يقدرها القارئ.
ونجده يغير في قوانين بناء الجمل المتمثلة بقواعد النحو، كقوله:
وما كنت لأعلمِ
إنَّ خيول الفجر
زاحفة نحوي- ص 67)
فجرَّ ميم أعلم وحقها النصب، ووضع أنَّ مكان أنَّ. 
وقوله:
(لن 
أطلقْ سِراحكَ – 58)
جزم أطلق وحقها النصب بـ(أن)
وقوله:
(محاطٌ
بأسوارَ الأنا ، -ص 87)
فتح (أسوار) وهي مجرورة غير ممنوعة من الصرف:
وفي قوله:
(بكى قلمي ،
فأمطر عشقإ ، - ص34)
وضع الهمزة (إ) مكان التنوين. 
واستعمال الشاعر (التحريف) وهو تغيير حروف الكلمة المعتادة في موضعها، وهي تقانة حداثوية معروفة، كقوله:
(أسرجتُ
ما
تبقى من العمر ،
كي
أتلمس ظلك
بين متاهاتِ الاماني ،
فضيَّعتُ
شُعاغي...!- ص 52)
فحرَّف شعاعي الى شعاغي.
وقوله:
(قرأت لها المعوذتين
فاستوت
على 
الجوري ، -ص 75)
فحرف الجودي الى الجوري.
كما استعمل (التصحيف) وهو تغيير حركات الكلمة الموضوعة لها في اللغة، كقوله:
(لن 
أطلقْ سِراحكَ – 58) فكسر سين سراحك وهي مفتوحة، ومن المثل (السَراح من النجاح).
وأكثر الشاعر من الاقتباس من القرآن المجيد، ولكن على طريقة الحداثويين؛ وهو تفكيك الايات واعادة تركيبها في جمل مغايرة للمقصود القرآني، كقوله:
(، ، ، وجاء
الوطن والدمُ
صفَّاً صفَّاً 
وقيل: 
يا . . قبور
احتضني رفاتهم ،- ص 23)
أخذ الشاعر لفظ الايتين الكريمتين (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (الفجر: 22) و (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي (هود: 44) فاستعمله في مقصود وغاية مختلفة. وهو كثير في المجموعة، ولدى الشعراء الحداثيين.
تلك كانت قراءة حيادية في مجموعة (ترنيمات) للشاعر عدنان الجزائري، وقفنا فيها على التقانات التي استعملها الشاعر في كتابة شعره، وقد بدت تلك التقانات اظهر من الشعر نفسه في المجموعة. وكأن الشاعر أراد ان يضيف بعض التقانات وتعرف وتعزى اليه. والمجموعة تدور في الشعر السيميائي الذي يبحث في ابراز شكليات قلد بها وزملاؤه الشعراء الغرب. ولا اجد كثير شعر في هذا النوع من الشعر، ربما يوجد فن تقاني له أهميته عند الغرب انسجاما مع لغاتها والناطقين بها وذائقتهم وثقافتهم وكل ذلك مختلف عنا، وانما نحن نطوع اللغة العربية، والجمهور العربي لتقبل وتبني ذلك. ولكن حين نحس بالجفاف والتصحر الشعري في نفوسنا نهرع الى الشعر الصحيح الصريح في دواوين المتنبي وأبي تمام والبحتري وغيرهم من شعراء العربية.
ويبقى كتابة الشعر العربي الاصيل الخالد رهينا باتصاله بالتراث الشعري العربي الاصيل، مع اضافة الحداثة غير المخرجة الى التأجنب الشعري. واذا ظهر الشاعر الموهوب المتمكن من ادواته فانه سيعيد المجد الشعري العربي وجمهوره الذوَّاق، وقد قيل: اذا ظهر الشاعر ظهر جمهوره. 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/03



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في المجموعة الشعرية (ترنيمات)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net