صفحة الكاتب : بكر ابوبكر

عيون الماضي الجميل وأرق الحاضر
بكر ابوبكر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 هل اختلفت الذكرى عن الحاضر أم تممتها أم توزعت أشتاتًا؟ هو السؤال الملحّ الذي كان يلاحقني كلما مررتُ بشاهد قديم، أو بحجر أو مَعْلم يثير الذكرى، ويفجر الماضي لاسيما ان الزمان لا يعود الى الوراء إلا حين استدعاء الذكريات، فقد فتعيشه بروحك القديمة وجسدك العفي أوذاك السقيم ما بين الشباب والمشيب.

كنتُ كثير الرغبة أن أرى أرض لبنان بعيون جديدة، أخت فلسطين الشمالية، ما كانت نظرتي له قديمًا عيون آخرى. وبالفعل فإن النظرة والإحساس يتغيّران ويتبدلان. لكن الحنين أبدي لا يزول، ليس لذات القائم وإنما لما كان.

فأنت ترى بالحاضر نسيجَ الماضي وتفرحُ بالذكرى أو من يشير اليك أو يستقبلك ليقول هأنذا لذلك فنحنُ عندما نكبرُ على ما يبدو نعيش ذكرانا ونستمدُ منها المدد في ظل صعوبة الحياة وشدتها كما سبقنا بالقول الأديب الكبير جبرا إبراهيم جبرا.

عقد المقارنات بين الماضي والحاضر حيث تفصل بين الفترتين في لقائي مع بيروت 40 عامًا عملية غير منصفة لأنها ترغب بثبات اللحظة عند حدودِ جميل ما توقفنا فيها، لاسيما وشرخ الشباب ينادي وهي فترة الصعود والانبهار والاكتشاف والبناء، واللبنات الأولى لتشييد أو تطوير أوتثمير الشخصية فما يستقر فيها، وما يتم تقبّله يكاد يتحكم بالقادم من الحياة ويشكل فيها مرجعية تتصدى للكثير من المصاعب القادمة.

بمعنى آخر فنحن في مرحلة النموالعمري ثم الشباب نُقبلُ على الحياة متمنين التقدم سريعًا، فالرغبة بالاكتشاف والنظر والرغبة بالتغيير سواء بالذات أو المحيط تكون يافعة غير مرتبطة بالضرورة بالسبب والنتيجة بقدر ما تكون مرتبطة بالرغبة والأمل، والسعادة بالعمل.

في بيروت بعد 40 عامًا رغم قصر المسافة الترابية بين فلسطين ولبنان كنت قد تجوّلت في أنحاء العالم ورأيت وأبصرت، وتعلمتُ وقدمت للآخرين الكثير مما تعلمته أو تأدبتُ به، وتذوقت وشممت وأحسست بالكثير المختلف عن الانبهارالطاغي الذي تسلّل الى نفسي حين وطأت قدماي أول قرية في لبنان عام 1981م من الطريق العسكري وصولًا الى شتوره، فالأوزاعي فبيروت.

كانت بيروت ومازالت تستقبلُ الجميع بأحضانها الواسعة مبتهجةً رغم قسوة ما مرّ بها عبر السنوات، لأنها مدينة الحب والفرح ومدينة الشباب والأغنية الجميلة والاناقة والوجوه المتقدة حيوية القادرة على أن تدفع في يديك الزهرة والمريخ معًا فتعيش اللحظة الناعمة لا تسأل بالقادم.

إنها بيروت التي قال بها الشاعر الكبير محمود درويش

"تُفَّاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام ،

فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ . شكلُ الروح في المرآة ،

وَصْفُ المرأة الأولى ، ورائحة الغمام

بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ ، وأندلس وشام

فضَّةٌ ، زَبَدٌ ، وصايا الأرض في ريش الحمام

وفاةُ سنبلة . تشرُّدُ نجمةٍ بيني وبين حبيبتي بيروتُ

لَم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي .....وتنامُ...

مِنْ مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم ، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ..."

ما بين قذائف الرعب ومدافع الظلمات والمعتدين كنت تجد نفسك مضطرًا للتعبير عن الحياة في جولة على بحر طرابلس أو بيروت أو صيدأ أو عبر شريط (فلم) تحضره في منطقة الحمرا، هذا ما كان إبان الحرب الأهلية وما تلاها. فالعربي اللبناني وأخال أخاه الفلسطيني يحبُ الحياة. ولا يقبل الموتَ إلا دفاعًا عن الوطن وشرف الأمة، وردًا للعدوان حيث  أنه حينها تهونُ الحياةُ لأجل الغاية والهدف الكبير.

بعد 40 عامًا مازلت أعيشُ أرقي وكثير حزن مكتوم، وما زلت مُثقلًا بالكثير من الذكريات الملتهبة التي لم أستطع أن أفرغها كلّها في هذه السطور القليلة، والتي كادت أن تتوارى وراء السحاب لولا هذه الزيارة القريبة البعيدة في ساعة طيران واحدة فقط بين عمان ولبنان، ودهر بين لبنان وفلسطين تحت الظلام.

وأنا أسوح من بيروت الى صور كنت أرجع أكثر قليلا ربما 100 عام الى زمن التراب العربي الواحد فأخرج من أحضان صور الى عكا ثم حيفا وصولًا الى يافا ورفح، وربما عرجت على نابلس أو القدس أو الخليل... ألم يكن الأمر دومًا هكذا؟

كما كانت صفد تسلم على  حلب ودمشق والناصرة وجنين ونابلس أيضًا بلا أي عوائق. وأجدها جغرافيا واحدة ومنفتحة، وجماهير متصلة من فلسطين مع الأردن شرقًا، ومع مصروغربها من ثغر غزة والعريش أيضًا.

ألم تكن عكا وحيفا حاضنة لصيدا وصور والعكس بالعكس؟ وكيف لك أن تجد فرقًا بالطبيعة أوالساحل أو القرى والمدن، أو جمال زهور البشر، وصلابة الرجال، وفتنة النساء حتى باللهجة المشتركة بين الشمال الفلسطيني وسوريا ولبنان؟

إنك لن تجد في شامنا العربي أو سوريا الكبرى أو شمال الجزيرة العربية (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان) ألا الشبه والتماثل، وأحيانًا التطابق ناهيك عن التاريخ المشترك والعادات والتراث والفلكلور... وذات الأغنية والدبكة والضيعة/القرية، والمَثَل والكبّة النية والتبولة والكنافة والفلافل والحمص.... الذي حاول الغرباء الصهاينة سرقته من شامنا ففشلوا بجدارة، كما فشلوا بالعثور على هيكلهم المزعوم تحت أقصانا ذو الشمم.

ليس من الصعب حتى اليوم أن تجد ذات المشترك الكثير بين الجزيرة العربية بكافة دولها وبين العراق وشامنا الأشم ومصر ومغربنا الكبير، حيث الجوامع مانعة والمفرقات الاستعمارية زائلة آجلًا أو عاجلًا.

وهنا أضمّنُ شعر الصديق الجميل عبدالقادر أبورحمة المقيم في حلب الذي تعرفت عليه في ورشة بيروت للعام 2022م... إذ يقول بعاطفته الفياضة، وعقله المستنير

"في بيروت..

كنتُ بلا كلمات أكتب رسائل للأهل هناك في عكا

كم أربكني البحر

كم هجمَ عليّ دون أن أنتبه لموجة عابرة

وكنتُ أقول سيكون لنا لقاء على شاطىء الصليب قريبا جدا من مدينة صور

وقفنا زرفنا دموعا كثيرة

كنا نتذكر عزمي الصغير وزكي أبو عيشة .

....إلى أين تذهب بي أيها الحلم

في الرشيدية والشواكير اختلطت الصور

وصار للحنين طعما يشبه الحضور الآسر

يأسرني حضورك أيتها البهية

أيتها المدججة بأحلامنا

يا هادئة الوعود .

كان أبو يوسف النجار يتفقدنا واحدًا واحدًا ونحن نمر في الشوارع والحواري ويقول لنا ما قاله بدمه مرة واحدة وأخيرة."

نعم، رحلة الذكريات كما أشرت سابقًا محفوفة بالمخاطر فقد تتركك وحيدًا هناك غير معترف بالواقع! وقد تمسح الماضي حين يصدمك الواقع، وقد تبني من المستقبل آمالًا مرتبطة بالماضي فترتد الى الخلف، ولك الخيار... وفي كل ذلك هي بلا شك رحلة مؤلمة وصعبة وأيما رحلة!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بكر ابوبكر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/09/07



كتابة تعليق لموضوع : عيون الماضي الجميل وأرق الحاضر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net