صفحة الكاتب : منتهى محسن

شجرة السدرة
منتهى محسن

 ظل وجه الصغير يتابع حركة الشجرة العالية، ويلاحق أوراقها المتساقطة، فيهيم قافزاً كل حين مهرولاً بكل الاتجاهات دون هوادة، حتى سكن فجأة واستقر بهدوء على أحد أحجار عتبة الدار المرتفعة، وراح يستغرق النظر ويدقق في زاوية حادة، وقلبه الصغير قد ازداد خفقانا لما أبصر عصفوره يحط على أحد الأغصان بسرعة خاطفة .
كان صوت المذياع المرتفع ينقل أخبار المجاهدين في خطوط الدفاع الأمامية، ولا يزال يرن في أذنيه زافاً خبر استشهاد كوكبة من الإبطال الأشاوس، متداخلاً مع صوت والده عندما كان يخاطبه في لقائه الأخير.
-  لا تبكِ يا بني لا تذرف دموعك بعدي .
-  لكنني سأفتقدك .
-  اعلم يا قرة العين لكني سأزورك، وأحوم بين أجفانك الغافية، وأعيش مع أنفاسك، اطمئن بني سأتابعك من بعيد، صدقني لن أتركك.
راح الصغير في حينها يتعلق في بدلته الخضراء بشدة وصوته يتهدج قائلاً: وماذا لو اشتقت لرؤيتك، هل ستحضر لرؤيتي..؟!
 تذكر الصغير كيف تماسك والده حرجاً أمام عنفوان براءته ومرارة الحقيقة، وكيف تسمّر للحظات قبل أن يطلق العنان لصوته في البوح له ببعض الأخبار الصادمة التي راح يقذفها صوبه كانسياب الماء في الصحاري الجرداء الظامئة .
- سأحضر كل أسبوع لرؤيتك ايها الحبيب، سأنظر اليك كيف يشتد عودك، وكيف تنبت الشوارب واللحية في وجهك الجميل هذا، سأطلع على تفاصيلك الدقيقة، درجاتك في مواد المدرسة، متابعتك لأمك وأخواتك، صحتك، كل شيء .
- حقا يا أبي ستحضر كل أسبوع لرؤيتي؟
- نعم ان شاء الله، انظر..! هل ترى شجرة السدرة الكبيرة في باحة الدار؟
- نعم يا أبي أنا دائم الجلوس تحتها وقت الظهيرة .
- في وقت الغروب وعند عشية كل يوم خميس تطلع نحوها، سأكون بهيئة عصفور صغير أنظر وأغرد لك، تعال في ذلك الوقت وحدثني بما يخطر على بالك سأستمع وأصغي اليك بكل شوق ولهفة .
- أهكذا سيكون لقاؤنا يا أبي.. !
كنت أعتقد بأنني سأرتمي في أحضانك وستعبث يداك في طيات شعري، وستحنو نحوي بقبلتك الدافئة التي ستروي اشتياقي لك، لكن كل تلك الأمنيات ستتوالى أدراج الريح.. !
تشوق لأحضانه الحنونة لما ارتمى فيها وقد دفن رأسه الصغير في حجره، يشمه ويمسح دموعه المتساقطة رغما عنه، ويداه الصغيرتان تتمسكان بذراعيه المفتولتين بشدة وهو يقول :
   _أبي.. ألا يمكن أن لا تذهب وتبقى معي، أما من عذر لك..؟
   _لا يا حبيبي لا عذر لي يمنعني عن الدفاع عن الوطن والعرض، الشرفاء يا بني أول من سيلتحقون بموكب العز والشموخ .    
- ولكن يا أبي كيف ستدخل في جسم العصفور الصغير؟
- سأكون روحاً لا جسداً، سأسافر في الوجود بهيئة ذلك العصفور وأخترق العوالم الكبيرة بذلك الجسد الضعيف لأكون معك .
- وكيف لي التعرف اليك من بين عشرات العصافير فوق الشجرة يا أبي؟
- ستراني بقلبك وتستشعرني بإحساسك، وستراني بكل سهولة متى ما صوبت عينيك نحوي.
- أبي.. وهل سيحضر معك العم علي والعم حسين أصدقاؤك الذين سيلتحقون معك غداً؟
- اذا كرمهم الله تعالى بالشهادة حتما يحضرون؛ لأنهم أيضاً سيذهبون لزيارة أهاليهم والاطمئنان على أحوال أطفالهم كل أسبوع .
- دعهم يحضرون معك فانا أيضا سأشتاق اليهم، صمت برهة ثم عاد يسأل:
- أبي ..
- نعم حبيبي.
- في كل مرة تلتحق مع رفاقك، تبكيك أمي كثيرا، دموعها تؤلمني يا أبي، كيف سأجعلها تتوقف عن البكاء؟.
 قال جملته الأخيرة وكفكف دموعه بكم قميصه وشهق في البكاء:
- سأخبرك بطريقة تستطيع بها ان توقفها عن البكاء بسهولة .
- ما هي الطريقة وكيف السبيل اليها يا أبي؟ 
- عاهدني على النجاح وعدني بأن تحيا بشجاعة وتحد وإصرار، نجاحك سيشغل أمك عن كم الأحزان وسيضيف الى حياتها فرحة صغيرة، ستنمو كالبرعم الأخضر في قلبها وهي تراك تزهر كل عام بالتفوق والمثابرة والنجاح.
- أعدك أبي سأفعل.. سأفعل.. سترى ذلك كلما قدمت لزيارتي، سأريك شهادتي المدرسية وستطلع على درجات تفوقي ولكن ..
- ماذا بعد يا صغيري؟
- هل سأستطيع الذهاب والطيران معك والانطلاق في عالمك البعيد؟
- لا يا حبيبي لن تستطيع، الله وحده العالم بذلك، لكني أرغب بأن تسد مكاني لتحامي عن أمك وأخواتك .
- حسنا يا ابي رضيت، بقي لدي سؤال .
- أسمعك حبيبي.
- إن انا كبرت وأصبحت رجلاً، هل تأذن لي بالالتحاق بمواكب الأبطال والمدافعين عن الوطن؟
اغرورقت عينا الأب على إثر سؤال صغيره، لكنه حبس أنفاسه وهو يصرح:
- لك ذلك يا حبيبي.. الوطن يحتاج إلى رجاله في كل زمان وأنت لها أيها الفتى الشجاع .
- أبي.. سؤال آخر..
- تفضل حبيبي.. سويعاتي الأخيرة سأقضيها بصحبتك، فاسأل ما تحب حتى طلوع الفجر حينها يتعين عليّ الرحيل .
- حدثني عن جهادك، أريد ان أعيش بطولاتك، كيف تواجهون الأعداء وكيف ترمون عليهم وابل القنابل؟
- يا بني.. العدو شرس وعدته خبيثة وهو لا يتوانى عن القتل والفتك بأي صورة كانت، فهو يستخدم أبشع الطرق لإيذاء الناس ولا يهتم بأن ينال الأبرياء او ان تطال دمويته الأطفال والنساء.
- أهكذا هو العدو يا أبي؟
- نعم يا حبيبي.. ان عصابات التكفير من أخبث الملل، فلقد جُندت بأفكار ضالة ما انزل الله بها من سلطان، حتى انتزعت منهم كل معايير القيم والنبل والأخلاق، يحملون شعار دين الإسلام والإسلام منهم براء يتكلمون بنصوص الآيات القرآنية، ويفسرونها بما تهوى أنفسهم، ويبيحون القتل والوحشية وينشرون الرعب والدمار.
- إذن كيف ستغلبونهم يا أبي؟
- إن الله هو الغالب والناصر: "وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".
- حدثني عن أحد هجوماتكم البطلة يا أبي؟
- ذات مرة كنا نرقب العدو وهو يتخفى تحت جنح الليل متقدما نحونا، استخدمنا واحدة من حيل الحرب ولم نظهر لهم أية ردود، وقد انطلت عليهم الخدعة وطاب لهم ذلك، وتوغلوا في أراضينا كالوحوش الضارية، كانت هيئتهم تدل على قذارة أفكارهم ومعتقداتهم الفاسدة، فلقد اسبلوا لحاهم بشكل مقزز، ونفشوا شعرهم كالمعتوهين والمجانين، وارتدوا من الملابس والجلابيب أردأها وأقذرها، وكانت أسنانهم العفنة تبدو خلف ابتساماتهم البغيضة كلما أحدثوا مجزرة او تمادوا في السفك، تفصح عن دناءة تلك النفوس الشريرة المستلة من أرواح الأبالسة والشياطين.
 كان فوجنا ينتظر ساعة الصفر للانقضاض عليهم وإبادتهم بالكامل، وقبيل اندلاع شعاع الشمس، جاء الأمر وحملنا عليهم حمل عزيز مقتدر، وتبادلنا الرصاص فأصابوا أعدادا منا، لكن كميننا كان بانتظارهم بالرغم من حجم الخسائر التي أصابت صفوفنا.
- كمين يا أبي..! ماذا فعلتم بهم؟
- كانت الارض التي تقدموا اليها مزروعة بالألغام ولدى حصارنا لهم ومواجهتنا حملنا عليهم وأغلقنا كل المنافذ، فتوجهوا الى حتفهم جماعات جماعات، فاذا حطوا بإقدامهم النجسة أديم تلك الأرض المباركة، تمزقوا الى أشلاء، وانتشرت رائحة الموت تلعن تلك النفوس الخبيثة التي توضأت بماء الفسق والكفر والعنجهية.
- كم أتمنى لو كنت موجودا معكم يا أبي..!، لأشهد انتصاراتكم العظيمة .
- نعم يا بني.. للانتصار نشوة وفرحة مشوبة بالظفر والتمكين .
- بني.. انظر الى خيوط الصباح كيف بدأت ترتسم في الأفق انها لوحة الجمال الإلهي المحض، سأغادر بعد قليل أيها الفتى الشجاع، فابقَ على عهدك معي، سيطول غيابي لكني سأنتظر إفراحك اياي بنجاحاتك المتلاحقة .
- حاضر يا أبي الغالي، وأنا سأترقب النظر فوق الشجرة، قلبي سيدلني عليك اعلم ذلك، فلا تدعني انتظر كثيرا.
وفجأة وبسرعة خاطفة قفز عصفور جميل على الشجرة وراح يغرد بعذب الصوت وكأنه يناجي الصغير ويحدثه ويسأل عنه، حينها مال الصغير بجسده نحوه، واستقر بعد حراك البحث المضني وراح يتأمله بشوق ولهفة .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


منتهى محسن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/25



كتابة تعليق لموضوع : شجرة السدرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net