صفحة الكاتب : حسين علي الشامي

الموتُ المبجّلُ
حسين علي الشامي

 سلسلة القصص المشاركة في مسابقة القصة القصيرة
المقامة ضمن فعاليّات مهرجان فتوى الدفاع المقدّسة الثقافيّ الرابع
تحت شعار: (أنتم فخرنا ومن نباهي بهم سائر الأمم)

  الدهشةُ ملأتْ المكانَ، خيوطُ الفجرِ البازغِ التَبَسَتْ بسوادِ خيوطِ ثيابِ آسريهِ، وجرحهُ الذي لازالَ يتنفسُ الألمَ، طبعَ على روحهِ الوجعَ، حيثُ جلسَ في زاويةٍ من زوايا الكوخِ، يتألمُ ويراقبُ دبيبَ الأقدامِ التي تقترُب من أسماعهِ شيئاً فشيئاً، لا يواسيهِ في ذلكَ المكانِ المنزوي إلا رسائل أمّه على هاتفهِ الخليوي، والتي كانت تنبضُ كلماتها حنيناً.

 بدايةُ الحكايةِ بطوليةٌ، حينَ وقعَ الصِدامُ هناكَ على مشارفِ مدينةِ الكرمةِ، في ذلكَ الموقعِ لم يقبل رجلُ اللحظةِ أن يتراجعَ، وينسحبَ بجرحهِ مع المقاتلينَ، انسحابهُ الذي سيؤخرُهم ويعرضُهم للاستنزافِ، باللحظةِ والثانيةِ قررَ أن يكونَ بأوجاعهِ الشاخصَ الذي يمنعَ العدو من حثّ الخُطى خلفَ اخوانهِ المقاتلينَ.
 اختارَ السيرَ نحوَ الجنةِ بهدوءٍ يسبقُ العاصفةَ، حوّل كلَّ نَفَسٍ فيهِ إطلاقةً يصطادُ بها ثعالبَ داعشِ الدمويةِ، وصيتهُ سلاماً لأمّهِ التي انتظرتهُ، وأبيه الذي يتحرّقُ ناراً لرؤياهُ؛ لتكونَ آخرَ رسائلهِ: أمّي، تجاعيدُ وجهكِ أنهرٌ لطالما سقتني وداً ومحبةً وعفواً وحناناً جميلا،ً أخذني الى عالمٍ من الإيثارِ النقيّ، امنحيني دعاءكَ، وتقبّلي حبي، سأتوجهُ الى الزهراءِ وأطلبُ دعاءها لكِ.
 أبي: علمتني أنّ الدفاعَ عن الوطنِ شمسٌ تنيرُ عتمةَ الاصلابِ، وتقي من ولادةِ الجبناءِ، وها أنا اليوم أنتظر رؤيا الحسينِ من شرفةِ الموتِ المبجّلِ، والدي الحبيب، تقبّل اعتذاري عن كلّ سهوٍ وتقبل محبتي.
 ما هيَ الا لحظاتٍ وأحاطَ بصقر الرجولةِ ضباعُ الواحةِ السوداءِ، تقودهُ مكتوفاً معصوبَ العينِ نحو النهايةِ الشامخةِ، سارَ معهم بكبرياءِ بركانٍ كسرت قوتهُ تلةٌ، خاطبهم صوتُ عظمهِ المهشّم صارخاً فيهم: أيَّ شعورٍ تملكونَ، هل من البشرِ أنتم تقودونَ أسيراً الى دكةِ الموتِ..!
 ثعابينُ الرملِ رفضتْ وقطعتْ صوتَ استصراخهِ الحقيقِ: كفّ عن الحديثِ والألاعيبِ، فحياتنا قائمةٌ على الدمِ..! سترى بأمّ العينِ استقبالهم في السوقِ لكَ، ستتفاجأ بمقدارِ الفرحينَ بجرحكَ، انكساركَ المهيبُ الجميعُ ينتظرهُ.!. صدورُنا اشتاقت لرؤياكَ على حلبةِ الموتِ تُنتزعُ روحكَ انتزاعاً بارداً؛ علَّ الصدورَ تُشفى وقلبُ الماردِ يهدأُ.
هاجسُ اللقاءِ عندَ إشراقةِ الشمسِ وتلاعِب ألوانِ السماءِ بهولِ الموقفِ، حيثُ نصبَ المسرحُ على عربةٍ كبيرةٍ، ونظمَ المجلسُ هناكَ بمساحةِ السوقِ الواسعةِ، اكتظَّ الجميعُ يشهدُ عودتهُ من جديدٍ؛ كي ينطقُ التاريخُ الشهادةَ الحرةَ على أسماعِ العالمِ، ويطلقُ رصاصةَ الحقيقةِ على رأسِ المتلونينَ، يخطفُ من ذاكرتهم البشعةِ واقعاً عاشتهُ الكوفةُ منذُ زمنٍ ليسَ بعيدٍ، الحكمةُ الإلهيةُ خطت على ألواحِ السماءِ منحوتتها شرفُ أهلِ كربلاء، وردةٌ تموتُ ذابلةً من شدة ِالعطش، لم يكن بذلكَ المجلسِ إلا رجل غرقت شفاههُ بمسكِ الدمِ النبويّ تحيطهُ مردةُ البشرِ، عطشانٌ يطالبهم بالماءِ ولا مجيب.
 تزدادُ آلامهُ فجوعاً عند تلاوةِ اتهامهِ: أتيتَ الناسَ، وهم جمعٌ، شتَّتَ بينهم، وفرّقتَ كلمتَهم، وحملتَ بعضهم على بعضٍ..! لم يكن ردهُ متوقعاً..!! صفعهم جميعاً بكلماتهِ: كلا لستُ لذلك أتيتُ، ولكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارَهم، وسفكَ دماءهم، وعملَ فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمرَ بالعدلِ وندعو الى الكتابِ.
حين انحسرتْ إنسانيةُ البشرِ وهجرتْ أفئدةُ بني آدم، عرفَ السفيرُ انّ القومَ تكالبوا على من أرسلوا بطلبهِ، الدانقُ والدينارُ فعلَ فعلَهُ..!! ولم يبقَ غير هانئٍ الذي ماتَ والحبالُ التي احتضنتهُ مواسياً لغربتهِ، مباركاتُ الشعبِ الغافلِ صفعاتٌ من الالمِ ضربتْ عنفوانَ الأمةِ التي خرجَ هؤلاءُ ليغيروا دماءَ شرايينها بمدادهم الطاهرِ، لكنّ دمَ هذا الجمعِ تجلّطَ وتحولَ الى مرضٍ لا يمكنُ لرائحةِ الحياةِ أن تفوحَ داخلَ غرفِ قلبهِ وقلبِ أمتهِ، ليقفَ ميلُ الساعةِ عند لحظةِ الصفرِ من دقيقةِ شاعريةِ الانسانِ المتحجّرةِ بفكرِ الدمِ.
 همسَ بأذنِ أحدهم يستجدي اصالةً غادرتْ صاحبها، ويأتمنهُ أمانةً يسوقها الى الحسينِ تضربُ حوافرَ خيلهِ الصحراءَ قاطعةً المسافاتِ الزمنيةَ، بينهُ وبينَ الركبِ القادمِ، علهُ يرجعهُ الى محطتهِ الأولى، ويرجعهُ عن الناكثينَ الذين رضوا بالعبوديةِ حاكماً تقودهم بإرادتهم: عُد أيها الحسين..!! فالكوفةُ ليسَ فيها أيّ انسانٍ..!! عُد أيها الحسين..!! فالشجرةُ لم تينع ثمارُها ولن تنضج محاملُها..!! دلّسَ الظالمونَ رسالتهُ، وخانَ الناقلُ المؤتمنُ وامتنعَ عن حملِ رسالةِ الواقعِ الى الحسينِ، توقفَ النبضُ بساحةِ الطاغوتِ، وبدأتْ دقائقُ الساعةِ تدقُ بصمتٍ عجيبٍ حتى جاءَ الامرُ: إنكَ مقتولٌ.
أهوَ القتلُ؟! لن تخيفوهُ، أنتم من ستخافونَ، وتترقبونَ، وتضيعونَ في غياهبِ الظلماتِ، تبحثونَ عن ملجأٍ يلجئكم من اللحظةِ الحاكمةِ العادلةِ حينما تطردونَ من رحمةِ اللهِ الى سخطِه فتنسونَ في قاعِ جهنم حيث محطةِ الخلودِ التي كتبتها جرائرُ افعالكم وخطّتها دسائسُ افكاركم.
 كانَ السيفُ بعدَ الركعتينِ قد تلا على رقبةِ السفيرِ تحيتهُ الاخيرةَ، هناكَ في أعلى القصرِ ناحَ الحديدُ، رفضَ ان يكونَ اداةَ الموتِ، حتى الحديدُ كانَ إنساناً، رفضَ الخنوعَ ولم يرفضوهُ، بل انهم امتنعوا أن يتركوا بقايا الحياةِ ترقدُ بسلامٍ، قيودهم، وحبلُ أمّ لهبٍ كانا بانتظارهِ، أزقةُ الكوفةِ وأسواقها كانت شاهدةً على بئسِ موقفهِم وذلِ تصرفهِم، جرّوهم ليهينوهم، لكنهم تحولوا الى مثاليةِ الدمِ التي تدفعُ الروحَ نحوَ الحريةِ.
 لم تنتظر الساعاتُ وقتاً طويلاً حتى أعادت المشهدَ من جديدٍ، في زمنٍ خانَ الاخُ أخاهُ وعادَ قابيلُ؛ كي يقتلَ هابيلَ..!! الأملُ الوحيدُ هوَ قتلُ كلّ من يرفضُ نهجهَم الدمويّ، كافرٌ حتى لو كانَ مسلماً، من أعلى السيارةِ كانَ يحدّقُ بعيونهم جميعاً، يسترسلُ الحديثَ معهم يذكّرهم بشخصيتهِ الانسانيةِ قبلَ الوطنيةِ: لِمَ أنتم فرحونَ بهذا المقدّرِ؟! أنا قادمٌ من بعيدٍ كي أخلصَ أرضي من هؤلاءِ وأحرركم من عبوديتهم..!! لمَ انتم مبتهجون؟! ألم أكن ابن حاضرةِ الوطنِ والمولودُ من رحمِ ترابهِ..؟! 
 لماذا قررتم أن أكونَ أضحيةً يباح دمها بغير ذنبٍ، الجميعُ هناكَ لم يعِ الا بعدَ أن كانَ معلقاً على الجسرِ ينظرُ الى السماءِ، ويرمقُ من هم بالأسفلِ بكبرياءٍ لم يشهدوهُ من قبلُ؛ ليكونَ الدينَ الذي ستسددهُ تلكَ المدينةُ في يومٍ من الايامِ..!! عبرَ مصطفى العذاريّ مسافاتِ المكانِ ولحظاتِ الزمانِ؛ كي يكونَ بين ذراعيِ مسلمِ بن عقيلٍ عطشاناً مثقلاً بجراحهِ ومعطراً بدمهِ، مربوطاً بنفسِ الحبلِ الذي امتلكهُ احفادهُم معلقاً على جسرِ الفلوجةِ صرحاً من صروحِ الشهادةِ التي تصرخُ بوجهِ قاتليهِ: سأُلَاحِقُكم ونهاياتُكم ستكونُ على يدي، فدمي في قطراتهِ سرُّ الحياةِ وسببُ النصرِ الأبي، عشتُ أبياً ومتُّ أثيراً شهيداً صاعداً، اعترشُ الصمودَ لأحلقَ طائراً في فردوسِ الخلودِ.
الحكايةُ لم تكن جديدةً بقدرِ ماهيَ قديمةً، فالأبناءُ يرثونَ المفاهيمَ والمصاديقَ، يرثونَ القوة َوالشجاعةَ كما المقابلُ ورثَ الخسّةَ والخيانةَ. مسلمٌ لم يكن إلا شهيداً عادَ بجسدِ العذاريّ، يصدحُ بصوتِ الحقِ معلناً من جديدٍ قيامَ ثورةِ الحسينِ وعودتها لإيقافِ يزيدَ الماجنَ، ومنعهِ من اقتيادِ الأمةِ الى مذبحِ انحرافِ العقيدةِ، وجذبِ الانسانيةِ من بينِ أنيابهِ واطلاقها حرةً؛ لتكونَ حقيقةً نعيشها فنكونُ إنسانييَن أكثَر من كوننا بشريين.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حسين علي الشامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/07/09



كتابة تعليق لموضوع : الموتُ المبجّلُ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net