بين العاشر والأربعين... البداية في سقوط مملكة الأمويين
السيد محمد الحسيني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لا يستغرب القارئ وأنا أطلق اسم المملكة على دولة الأمويين التي أسِّسَت في بلاد الشام، لا من وجهة نظر متطرفة، كوني محسوباً على الخندق المناوئ لهم، بل لأني استندت على وقائع حقيقية ملموسة وأدلة قاطعة لا يرتقي لها الشك إطلاقاً، فدولة الأمويين بنت أمجادها على جماجم المسلمين وعلى دمائهم الطاهرة وخاصة العترة الطاهرة، وأزهقت آلاف الأرواح البريئة من قبلهم، ومُورست في عهدهم شتى أنواع التعسف والظلم والإبادة، وكانت أحكامهم تصدر على الظنة والتشكيك، وتفنن أزلامهم من الجند والسجانين والولاة في وسائل التعذيب واستحدثوا وسائل غريبة لم يطرقها غيرهم ممن يحمل صفة الانسانية واتبعوا مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، وبات لسبيل الترغيب والترهيب الصفة السائدة للتعامل مع الرعية والانتقام الجماعي من كل صوت معارض، واستخفوا بالحرمات والمقدسات والتجاوز على الشريعة واذلال المجتمع، بل تعدى ذلك الى نكران وجود الخالق عزوجل عندما أنشد ملوكهم ما عبروا عما تكنه صدروهم من غلِّ وحقد على الاسلام ومثالها:
لعبت هاشمُ بالملك فلا * خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
وانشد آخر مخاطبا القرآن الكريم وهو الوليد بن عبد الملك عندما مزق القرآن:
إذا لاقيت ربك يوم حشر * فقل يا ربي مزقني الوليد
إن كل السلوكيات أعلاه تتفق تماماً وسلوكيات الملوك وأنظمتهم الشوفينية المتسلطة على رقاب شعوبها، والذين تربعوا على عروشهم بوسائل الغدر والحيلة وقوة السلاح، مستمدين قوتهم من الأراذل وضعاف النفوس الذين أغروهم بالسلطة والمال والوسائل الخسيسة الأخرى، فماتت ضمائرهم وأصبحوا الأدوات التي تنفذ مآرب ودسائس أولئك الملوك.. وقد تطرق القرآن الكريم صراحة إلى وصف الملوك وأسلوب تحكمهم بالرعية، في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً).
 أما الدليل الآخر على كون دولة بني أمية مملكة لا تمتّ الى الاسلام بصلة، فهو قصورهم الماجنة المليئة بالمحرمات، فمجالس الطرب والغناء والشعر الخليع وتفشي الزنا وشرب الخمور وغيرها، إضافة لاستباحتهم دماء العترة الطاهرة والصحابة الأخيار، بل حتى البيت الحرام الذي طالته مناجيقهم وأفعالهم الشنيعة واستباحة مدينة الرسول الأكرم محمد (ص) وواقعة الحرة بعد واقعة الطف.
أما توارثهم سدة الحكم، فهو دليل قاطع على أن دولة بني أمية هي مملكة يتوارثها الأبناء من الأباء بعد بيعة وهمية تُؤخذ قسرا من الرعية..! وكل من لا يقرّ بها فمصيره القتل والانتقام، مستغلين الأقلام المأجورة والاعلام الكاذب في تشويه الحقائق وصورة الضحية.
إن معركة الطف بكل فصولها هي نقطة التحول في الحياة السياسية للمجتمع الاسلامي، وهي بداية السقوط لمملكة الأمويين، وإن الدماء الزكية الطاهرة التي أريقت في كربلاء وروت أرضها، والأبدان الشريفة التي تضمّها تربتها المقدسة، كانت وستبقى المشاعل الوهاجة والشموع المنيرة والشموس الساطعة التي أنارت وستنير درب الحرية الذي خطته لكل الأجيال وللإنسانية جمعاء.. وإن الخلود ينتزع بالمواقف المبدئية الثابتة، وإن الدم هو المنتصر على السيف، وإن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وإن منائر وقباب كربلاء ستبقى الشعلة التي تحرق الظالمين وتنير الدرب للمستضعفين، وإن الإمام الحسين (ع) هو مصباح الهدى وسفينة النجاة من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وسيظل الحسين (ع) قبلة أحرار العالم وسيد الشهداء...
إن من يتعمّق في حوادث ووقائع وفصول معركة الطف، يلمس بوضوح تام تدخل إرادة السماء..؟ وإن هناك إشارات وعلامات مضيئة للبصمات الإلهية فيها، فقد تم توزيع الأدوار لكل فرد من أصحاب الحسين (ع) ابتداء بعبد الله الرضيع، وصولاً للإمام المظلوم، فتحققت النبوءة في المقولة التي يتمسك بها المؤمنون من أن (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء)، وإن معركة الطف تفسير حي للحديث الشريف: (حسين مني وأنا من حسين)، وكأن لكل شهيد قصة، ومن وراء القصة هدف، وإن جميع الأهداف تصبّ في غاية واحدة تشكل الضربة القاضية التي شكلت البدايات لسقوط مملكة الأمويين، حيث باتت حديث المجتمع عن ظلم واستهتار الأمويين وطغيانهم، مما ولد ثورات متعاقبة، وألّبت الجماهير ضدهم..
إننا عندما نؤكد على تدخل إرادة السماء، فإن الدلائل الكثيرة تشير إلى ذلك، فالبشر وطبائعه وحواسه وطاقاته معروفة، وإن وقائع الطف تشير إلى حالات لايمكن إطلاقا أن يتحملها البشر السوي الاعتيادي، فالصبر المتناهي، والعزيمة الجبارة، والايثار العظيم، والمبدئية والاخلاص لله عزوجل وغيرها.. مواقف غير طبيعية لا يمكن للطاقات البشرية استيعابها، ورباطة الجأش في تلك المواقف كانت خيالية.
وإكمالاً لدور الإمام الحسين وأولاده وإخوته وأصحابه من الشهداء والصديقين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فقد أسندت السماء الى الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، وعمته الحوراء زينب (ع) دورا آخر مكمِّلاً لما بدأه الحسين (ع)، فكان من الخطورة والدقة في تغيير المعادلة السياسية، وقلب موازينها لصالح الدين الاسلامي، فبرع كل منهما في الدور المناط به لتقضّ أوكار الظالمين في مواقعها، ولتنكشف الحقائق على مصراعيها بعد إزالة الغشاوة عن عيون وقلوب المخدوعين بحقيقة آل أمية وأعوانهم، فكانت المواقف المميزة المدعومة بالنصوص القرآنية والخطب الخالدة التي نفذت كلماتها إلى الأفئدة والحجج والبراهين التي قورع بها الظالمون، ما عجّل في سقوط مملكة الأمويين بعد أن فقدوا ثقة الناس بهم.
إن الدور الإعلامي الكبير الذي تبناه الإمامُ السجاد وعمته زينب عليهما السلام قد أخرس الظالم وجلاوزته في عقر دارهم، وإن ردود أفعالهما قد جعلته في حيرة من أمره، فكان كلاهما يختار العبارات الرصينة التي تترك آثارها في الجمهور، فيدرك الظالم ضعفه أمام الارادة الحديدية التي يمتلكانها، فعندما أراد اللعين الطاغية عبيد الله بن زياد استفزاز العقيلة والتشمت بها عندما سألها عن وقع الحادثة المأساوية عليها.. أجابت بكل ثبات ورصانة وإيمان مطلق: (ما رأيت إلا جميلا)، فردت كيده الى نحره، ومثلها في مجلس يزيد، قالت (ع): (فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا.. وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)، وهي إشارة لتنبؤ موثوق من أنها سقوط مملكة الأمويين لا محالة، ويومها كانت البداية، فمنذ اليوم العاشر وبعد استشهاد الحسين وصحبه عليهم السلام، وسوق بنات رسول الله أسارى باتجاه الكوفة، ثم إرسالهم الى الشام، تفجرت ثورة التوابينن وأقيمت مواكب العزاء في جميع المدن والأمصار التي مر بها الركب، مما أفقد السلطة زمام الأمور، وكانت حقاً بداية سقوط مملكة الأمويين ما بين العاشر والأربعين..
إن معركة الطف ألقت بظلالها ونتائجها على الأجيال اللاحقة بعدها، فبات جميع الظالمين يخشون اسم الحسين (ع) ونهضته، فبذلوا جهوداً جبارة للقضاء على آثارها، ولكن (.. يَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، فظلت حية تتناقلها الأجيال، وتستلهم العبر والدروس منها، وأوجب الأئمة الأطهار إحياءها في كل محفل، فقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع): (رحم الله من أحيا أمرنا).
ولعل التاريخ الحديث يؤكد إيمان الأجيال بانتفاضة ونهضة الامام الحسين (ع)، فان الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991م هي أحد الدروس الاساسية المستنبطة من الثورة الحسينية الخالدة، فهي التي هزت عرش الطاغية المقبور صدام، وهي التي كانت البداية لسقوط نظامه الظالم، وهكذا يعيد التاريخ نفسه.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد محمد الحسيني

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/23



كتابة تعليق لموضوع : بين العاشر والأربعين... البداية في سقوط مملكة الأمويين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net