الكناية في القرآن الكريم
د . مهدي راضي عبد السادة
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . مهدي راضي عبد السادة

تقترب الكناية من المجاز في كونها لا يُراد بها المعنى المصرّح به، بل يُراد به معنى آخر، أو هي كما يقول عبد القاهر الجرجاني عنها: (ان يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومي به إليه ويجعله دليلا عليه).
أو هي كما يعرفها الخطيب القزويني (لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه)، وتقع الكناية في مرتبة أعلى من التصريح فقد (أجمع الجميع على ان الكناية أبلغ من الإفصاح)، وقسمت الكناية على أيدي البلاغيين ثلاثة أقسام هي: الكناية عن موصوف، والكناية عن صفة، والكناية عن نسبة.
لقد وقع في الجواب القرآني عدد من الكنايات، وكان أكثرها كناية عن موصوف، ويعد (الزمخشري أول من أشار إلى هذا الموضوع، فلم نقرأ إشارة واضحة عن الكناية عن موصوف فيما سبق)، ومن ذلك قوله جل شأنه: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، فقوله: (هو أذى فاعتزلوا النساء.. من حيث أمركم الله.. فآتوا حرثكم أنى شئتم.. من الكنايات اللطيفة والتعريضات الحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم)، وهكذا جاءت الكناية الأولى في هذه الآية المباركة (فاعتزلوا النساء) كناية عن ترك مجامعة النساء، والثانية (من حيث أمركم الله) كناية عن موصوف أيضا وهو موضع النكاح، وقد جاءت هاتان الكنايتان في جواب سؤال صريح موجه من المؤمنين إلى نبيهم الكريم ( صلوات الله وسلامه عليه).
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً).
فالمسؤولون لا يجيبون هنا صراحة عن السؤال، وينفون عبادة الكفرة والمشركين لهم، بل يلجؤون إلى طريق الكناية بقولهم (ما كان ينبغي لنا..) وهو (كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاءً شديدا، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي (كان) وجعل المطلوب منفيا خبرا عن (كان) أقوى في النفي، ولذلك يسمى جحودا).
أما الغرض من اللجوء إلى الكناية مع ان الموقف يتطلب الإجابة بشكل صريح، فهو ان الله تعالى عالم بالحقيقة قبل أن ينطق بها هؤلاء، ومن هنا فلا بأس من الكناية عن ذلك، ليكون أنسب في تقديس الباري عز وجل، وأليق بتنزيهه عن المشاركة في العبادة.
وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ). والكناية هنا واقعة في قوله: (بلى قادرين على أن نسوي بنانه)، ومعنى ذلك(بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه)، والتسوية المذكورة في هذه الآية المباركة (كناية عن الخلق؛ لأنها تستلزمه، فانه ما سوي إلا وقد أعيد خلقه)، وكان الانتقال في هذه الكناية من اللازم إلى الملزوم، بحيث لم تكثر الوسائط بينهما، وهي لذلك تعد كناية قريبة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat