صفحة الكاتب : عماد جابر الربيعي 

سِيَرٌ وتَراجُمٌ بلَونِ النَّهارِ  نَظَرَاتٌ في خُطَبَاءِ الحِلَّةِ الفَيحَاءِ 
عماد جابر الربيعي 

   من  منشورات العتبة الحسينية المقدسة  ــ مركز العلامة الحلّي ( قدس ) ــ لإحياء تراث حوزة الحلَّة العلمية . صدر للدكتور سعد الحداد كتاب خطباء الحلَّة الفيحاء . زينت غلاف الكتاب صور [ ثمانية ] منهم ، وفي اختيار هذا العدد اشارة جميلة ، إن لم تكن إلى قوله تعالى في سورة الحاقة : (( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )) الآية / 17 . فهي اشارة إلى ما ورد عن الرسول ( ص ) : (( في الجنة ثمانية أبواب )) . 
     جاء في تقريظ الشاعر المبدع السَّيّد محمَّد علي النجار [ قبل رحيله ] للكتاب : 
جهـود سعد كلها مـذخوره          وكـلها محمودة مشكـوره
فذكره معطر طول الزمن           لأنه قد قام في فعل حسن 
     وأما الشاعر الأستاذ حسن يحيى العذاري ، فمما جاء في تقريظه هذا التاريخ الشعري : 
   لم يأل جهدا ( سعدنا )           ما ضاق منه الصدر ذرعا 
   أرخ [ وقل شعري نبا            قـد أوقـد الحداد شـمـعـا ] = 1439 هـ 
     نعم . . . لم يكن خطباء الحلَّة الفيحاء مجرد كتاب استعرض فيه مؤلفه الدكتور سعد الحداد أسماء الخطباء الذين مضوا . . إنما يجد القارئ فيه الكثير الكثير مما يغني معارفه عن هؤلاء الأعلام ، والذين كان لهم دور بارز في جوانب الحياة المختلفة . . رجال رحلوا إلا أنهم تركوا بصماتهم الواضحة والتي هي مصدر عز وفخر لأبناء بابل . وبسبب صفاتهم والأدوار التي أدوها ، لهم الحق كل الحق في إحياء أسمائهم وحفظ تراثهم والإفادة منه (( وليس لنا إلا أن نشد على أيدي الأخ الفاضل المحقق الدكتور سعد الحداد ونبارك له هذا الجهد المبذول وهو يؤرخ لطائفة من اولئك الأفذاذ توثيقا يحيى به نفوس عاملين مجاهدين )) فهؤلاء الأعلام نماذج فذة جديرة بالذكر والثناء والإشادة .  
     مقدمة الكتاب :
     في مقدمته للكتاب ذكر الدكتور سعد الحداد تعريفا موجزا للخطابة وتاريخها ، ثم انتقل إلى منهج الكتاب بوصفه (( يوثق سير من تعاطى الخطابة المنبرية في مدينة الحلَّة وما تبعها من أقضية ونواحٍ وقصبات عبر قرون متتالية )) . ثم تكلم عن نشأة الخطابة في الحلَّة منذ زمن تمصيرها . . . وأشار إلى أقدم النصوص الشعرية والنثرية للشعراء والذاكرين الحلّيين الذين أغنوا المنبر الحسيني . . كذلك أشار إلى اسهام الحلّيين عبر القرون لاسيما الشعراء الذين كان يُقرأ شعرهم على المنابر . . وأخيرا تحدث عن السَّيّد صالح الحلّي باعتباره ((ظاهرة جديدة برزت على مستوى المنبر الحسيني كأحد الخطباء المجددين )). 
     تضمن الكتاب سير وتراجم [ 118 ] خطيبا حسينيا راحلا ، بدأ بــ [ الشَّيخ داغر الحلّي ( ت ق 9 هـ ) ] وختم بـ [ السَّيّد عباس الغرابي ( ت 1435 هـ ) ] . فالمنهج تاريخي وعلى امتداد مساحة المحافظة وليس مركز المدينة فقط . 
     أغلب الأعلام زينت صورهم صفحات الكتاب [ لمن توفرت ] لأن الكتاب يترجم لخطباء الحلَّة منذ تأسيسها ، وأثني على اختيار الدكتور سعد الحداد لصورة الشَّيخ الدكتور محمَّد مهدي البصير ، وهو يرتدي العمامة ، وهي صورة قديمة وأجد هذا الاختيار جديرا بالثناء . . . وما دمت ذكرت البصير أقول : نجد من خلال التراجم أن بعض خطباء الحلَّة من [ البصراء ] وهذا يمثل جانبا ايجابيا في تاريخ الحلَّة الفيحاء الديني والثقافي والاقتصادي ، ومستوى الذكاء لأبناء هذه المدينة . . لذلك يمكن القول إن أولى سمات منهج الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء هي توثيق التراث الحلّي . 
         توثيق التراث الحلّي : 
           لا تخلو التراجم من توثيق التراث [ التاريخي ] لمدينة الحلَّة لاسيما أسماء المساجد ومواقعها ، من خلال ذكر الأماكن التي كان خطباء الحلَّة الفيحاء يقيمون مجالسهم فيها ، من ذلك ما جاء في ترجمة [ الشَّيخ عبد الشهيد الشهيب ] ص313 : (( ويروى أنه كان يتنقل من مسجد  [الشَّيخ محمَّد الشهيب  ] إلى مسجد [ الكلش ] وبعده إلى مسجد [ البغل ] ثم ينتقل إلى مسجد [ أبو حواض ] ليختم مجلس التعزية في مسجد [ الطريحيين ] في المهدية . .. 
         إلى جانب ذكره للمجالس التي كانت تقام من قبل أصحاب الحرف ، من ذلك ما جاء في ترجمة [ الشَّيخ ميران شويلية ] ص349 [ على لسان المؤلف ] : (( وقد كنت أحضر مجلسه في سنوات العقد الثاني من عمري في سوق النجارين صباحا خاصة أيام محرم الحرام وصفر الخير أو في المناسبات الدينية المختلفة على مدار السنة التي كان يقيمها النجارون في الفرع المجاور لمقام غيبة الإمام المهدي ( عج ) في محلة جبران . 
       كذلك إشارة الدكتور الحداد إلى من يقرأ في مجالس محدودة ومناسبات خاصة .. وهذا خير دليل على سعة اطلاع الدكتور سعد الحداد وتتبعه ودقته . 
       إلى ذلك فقد نقل لنا الدكتور الحداد عن الأستاذ صلاح اللبان في ترجمة [ السَّيّد فتح الله العميدي ] ص400 : (( ان المواكب كانت تؤم [ ديوه خانة ] الأفاضل السادة القزاونة المعروفة بــ [ دار الفاطمية ] لعقود عديدة متتالية حتى سنة 1955م . إذ اتخذت تلك المواكب حسينية [ ابن طاووس ] مكانا لممارسة شعيرة محرم الحرام حتى إلغاء ومنع المواكب من ممارسة نشاطاتها المذهبية في بداية النصف الأخير من سبعينيات القرن المنصرم . 
       كذلك فقد ذكر الدكتور سعد الحداد خلال التراجم اسماء أساتذة الخطباء واسماء تلاميذهم ، إلى جانب ترجمة موجزة ــ في الهامش ــ لأساتذة الخطباء الذين يرد ذكرهم خلال التراجم ، لاسيما إن كانوا من غير الحلّيين ومن الذين ليس لهم ترجمة في الكتاب . 
          مصادر الترجمة : 
     يمكن وصف مصادر الترجمة التي اعتمدها الدكتور سعد الحداد بالموسوعية والتنوع ، ولأن خطباء الحلَّة الفيحاء تنقلوا بين المدن [ المحافظات والأقضية والنواحي ] نجد الدكتور الحداد ينقل لنا عن المصادر التي تحدثت عن أدباء وخطباء تلك المدن ، ويختار من المؤلفين أوثقهم وأوسعهم اطلاعا إن لم يكونوا ممن تكونت لهم صلات بخطباء الحلَّة الفيحاء . من ذلك ما نقله في ترجمة [ محمَّد علي اليعقوبي ] ص268 عن المرحوم جعفر الخليلي ، فهو ممن كانت له صلة [ معرفة ] باليعقوبي . . كذلك ينقل الدكتور الحداد عن هؤلاء الأعلام ما صدر عنهم من [ الإطراء والثناء ] لخطباء الحلَّة الفيحاء . 
     هذا وقد التزم الدكتور سعد الحداد الإشارة إلى مصادر الترجمة لجميع الخطباء الذين ترجم لهم في كتابه [ خطباء الحلَّة الفيحاء ] . فاذا كان الخطيب المترجم له ممن ذكرته المصادر [ المطبوعة أو المخطوطة ] نجد في ختام ترجمته عبارة [ من مصادر دراسته ] يذكر فيها بإيجاز اسم الكتاب والجزء ورقم الصفحة  ، ويجد القارئ تفاصيل هذه المصادر في فهرس المصادر والمراجع ص491 ــ 500 . 
     إلا أنه لا يطيل كثيرا في ذكر [ من مصادر دراسته ] أعني عدم الاستقصاء والشمول  [ اختصارا ] بدليل حرف الجر [ من ] الذي من معانيه التبعيض ، ذلك أن الهدف من الكتاب توثيق السيرة  وليس احصاء مصادر الدراسة . وأطول قائمة لمصادر الدراسة [ نصف صفحة ] كانت للشيخ الدكتور محمَّد مهدي البصير ، ولو ذكر جميع مصادر دراسته لتجاوزت الصفحة ، وهي بين يديه . . ولهذا أحيانا يذكر الدكتور الحداد مصدرا واحدا للترجمة لاسيما إذا كان من مؤلفاته ، ولكنه في أثناء الترجمة يذكر في الهوامـش اسماء المصادر ، أعني أن التراجم ــ في هذه الحالة ــ لا تخلو من الهوامش التي يجد القارئ فيها مصادر أخرى للترجمة . ونادرا ما تخلو  مثل هذه التراجم من الهوامش [ ترجمة السَّيّد أمين الشلاه  الأعرجي ص191 ــ 192 ] . إلا أن هذا الايجاز غير مخل لأن القارئ يستطيع الرجوع إلى مصدر الدراسة ليقف على التفاصيل التي يرغب الوقوف عليها . . .  ولا بد من الإشارة إلى أن الدكتور سعد لا يكتفي بما يقف عليه من تراجم وان كانت وافية ، فهو يضيف إليها ما استجد وما وقف عليه [ منها ما أضافه إلى ترجمة ] الشَّيخ يعقوب الحاج جعفر الحلّي ص 121 ــ 122 مثلا .. 
     هذا وتشكل تراجم الخطباء الذين لهم ذكر في المصادر حوالي 40 % من عدد الخطباء الذين ترجم لهم الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء . 
     إلى ذلك فقد جاء في ختام بعض التراجم بدلا من مصادر الدراسة [ في الهامش ] عبارة : لقاء مع . ....  أو عبارة : زودني بهذه الترجمة . .....  ويذكر اسم الشخص الذي التقاه أو زوده بالترجمة . . وهنا ملاحظة في غاية الأهمية وهي : لم يذكر الدكتور سعد الحداد اسماء الكتب التي ترد خلال مثل هذه التراجم ضمن قائمة  المصادر والمراجع ، وهذا خير دليل على أمانة المؤلف العلمية . . . وربما يأتي مصدر الدراسة [ الترجمة ] رسالة ، قد تكون من باحث أو ابن أو حفيد الخطيب أو قريب له إن لم يكن صديقا . وتشكل التراجم التي حصل عليها المؤلف بهذه الطرق حوالي 30 % . . 
     ولكن الأهم من هذا وذاك أننا نجد ضمن مصادر الدراسة عبارة [ معلومات خاصة ] ص226 و  350  و 369 . وتمثل 10 % من مجموع التراجم . وقد تأتي مصادر الدراسة [ مصادر خاصة ــ فقط ــ ص 201  و  226 ] وتمثل 20 % من مجموع التراجم . . . . 
     هذه العبارة [ مصادر خاصة ] تذكرني بـ [ صندوق اليعقوبي ] الذي (( اشتهر بامتلاكه مكتبة يضرب بها المثل وصندوقا يسمى ( صندوق اليعقوبي ) لما يحتوي عليه من نفاسة مخطوطاتها )) . فالدكتور سعد الحداد لديه الكثير مما لم ينشره بعد ، عسى أن تتوفر له الفرصة ــ إن شاء الله ــ لنشر ما تحتويه [ خزانته ] لا سيما ما يتعلق منها بتراث الحلَّة الفيحاء . 
      ولا يخفى اختلاف حجم تراجم الخطباء ، كونه يرجع إلى ما تيسر من مصادر الدراسة ، وربما جاء بعضها [ مختصرا ] رغم توفر المصادر ، فهذا ما يراه المؤلف حسب منهج البحث الذي التزمه [ وأهل مكة أدرى بشعابها ] . 
     أقول : إلى جانب هذه المصادر المتنوعة نجد في الهوامش اشارة إلى مقال في جريدة ص46 مثلا أو على الأنترنت ص38 . وقد يضيف المؤلف للترجمة فقرة تدل على مشاهدته أو سماعه تبدأ بــ : أقول ...... أو قلت : ........  وأرى أن هذا التنوع في المصادر يكمن فيه سر نجاح الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء . لأننا نلمس من خلال هذا التنوع أن عمله استمر لعدة سنوات [ ومن خلال ملاحظة التواريخ التي يذكرها ] وأنه لم يعتمد فقط الكتب ، أعني أن عمله لم يكن مكتبيا [ فقط ] يجلس خلف منضدة في مكتبته ، بل نراه يذهب هنا وهناك ويلتقي هذا ويسأل ذاك ، مما جنبه الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها سواه ..... لذا جاءت تراجم الخطباء غنية بمعلومات لم تدون سابقا ولم يسبقه أحد إلى تدوينها ، وذكر أسماء خطباء يجهلهم أصحاب الاختصاص في هذا الشأن . فأحياهم الحداد وفتح الباب على مصراعيه لمن أراد البحث والتوسع في هذا الجانب . فلولا هذا الجهد [ الخاص ] من الدكتور سعد الحداد لما عرفنا [ ثلث ] هؤلاء الخطباء .... لذا فهو جدير بالثناء دون رياء .. كونه  الباحث العلمي الموسوعي الثبت في اختصاصه . 
     الجانب الخلقي والانساني :
     لقد أعطى الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء [ الجانب الخلقي والانساني ] حيزا واسعا [ شبيه الشيء منجذب إليه ] . فذكر العديد من الشواهد ، لذلك من الصعب اختيار نموذجين أو ثلاثة كأمثلة .وأنا أكتب هذه الكلمات أيام المرحلة قبل الأخيرة [ قبل أن يتحول إلى وباء ] من جائحة الكورونا  [ كوافيد 19 ] ــ نسأل الله العافية للناس جميعا ــ  .  
     فمما يروى عن الشَّيخ عبد الباقري [ كان ضريرًا حرم نعمة البصر منذ ولادته ] : (( إن الفقراء كانوا يتجمعون عند ( مقهى عودة ) في محلة الكراد ينتظرون خروج الشَّيخ كي يساعدهم ماديا أو يذهبوا معه من أجل اطعامهم )) . 
     وأما الخطيب الطبيب الميرزا ناصر سعيد (( وقد صادف أثناء عمله في مستوصف الكفل انتشار وباء الملاريا وارتفاع نسبة الوفيات بهذا المرض ،  وكان الدواء الوحيد محلول الكينين [ الدواء المر ] الذي لا يتقبله الناس ، فاشترى الميرزا ناصر أبر الكينين من الصيدلية في بغداد ليستخدمها مع حبوب الكينين لقاء أجر زهيد مستخدما ذلك كإجراء وقائي ، لذا لم يصب أهل الكفل بالملاريا ، وكانت نسبة الوفيات طبيعية وشكرته المديرية العامة للصحة )) . 
     أقول : ليس للفقراء اليوم سوى أن يرددوا ما جاء في سورة الشعراء على لسان سيدنا ابراهيم ( ع ) : (( والذي هو يطعمن ويسقين ( 79 ) وإذا مرضت فهو يشفين ( 80 ) . )) ولا أقصد التقليل من قيمة ما تم توزيعه ، فالرسول( ص ) يقول : (( تصدق ولو بشق تمرة )) ومن المأثور : (( لا تحقرنً من المعروف شيئا )) . ولكن ما حصل حركة مؤقته محدودة لفترة قصيرة . أما هؤلاء الخطباء فقد كان عطاؤهم متواصلا مع مسيرة حياتهم ، وما على القارئ الكريم سوى تصفح كتاب الدكتور سعد الحداد ليلمس هذا العطاء الإنساني في مسيرة خطباء الحلَّة الفيحاء . .
     فهذا السَّيّد مجيد أبو حية (( يروى عنه أنه كان يقيم المجالس الحسينية في بيوت المعوزين ، وكانت نفقات العزاء من ماله الخاص ))  . 
      وكان الشَّيخ نور الشَّيخ جابر مثالا للزهد والتقوى والورع (( وكان كريما حتى أن أغلب مجالسه يقرأ فيها مجانا ، وما يحصل عليه من أموال ينفق الكثير منها في مساعدة الفقراء ، ورفع معاناة المعوزين والمساهمة في تزويج العزاب من المؤمنين )) . 
      كذلك فقد اشتهر عن الشَّيخ حنون الحسوني (( اهتمامه الشديد بالعناية بأرحامه من قَرُبَ منهم ومن بَعُدَ ولاسيما ضعيفي الحال منهم ، فكان لهم منه مكيال معلوم يكيله لهم كل موسم من الحنطة  والشعير فضلا عن التبغ والمواد الغذائية الأخرى )) . 
     وكان الشَّيخ علي العذاري الصغير (( ذا معرفة جيدة بالطب البدني والروحي أخذ ذلك عن أبيه الشَّيخ محمَّد وجده الشَّيخ عبد الله العذاري وكان يداوي الناس مجانا . .......وفي زمن رئيس الوزراء العراقي صالح جبر مَرّ العراق بسنة جوع قبل تشريع قانون التموين . . كان يشتري وزنة الشعير بــ  ( 8 ) دنانير وهو سعر غال في ذلك الوقت ويوزعها على فقراء القرية وما جاورها ، وكان أيضا يشتري الــ ( مسواك ) من الخضر وبعض مواد التموين ويضعها في كيس في باب دكانه وعندما يمر أحد الفقراء يناديه قائلا : (( هذا الكيس لك نسيته عندي )) حفاظا على مشاعر ذلك الفقير أمام الناس )) . 
     أقول : هذه الجوانب الإنسانية في الحقيقة هي من شروط الخطيب ، أعني أن يكون مثالا في النزاهة والعفة ومساعدة المحتاجين ليكون قدوة للمؤمن الذي تتجسد فيه مبادئ الدين ، ولاسيما ثورة الإمام الحسين ( ع ) وسيرة آل البيت الأطهار ( ع ) ، وإلا كيف يستمع الجمهور للخطيب ويتأثر به ؟ . . . فشكرا والف شكر للدكتور سعد الحداد الذي أحيا هذه المآثر الإنسانية وحفظها من الاندثار والنسيان وخلدها في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء . 
      على خطى سيد الشهداء ( ع ): 
      يقول الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء : (( إن الخطابة بوصفها مهنة غيرها حين تكون فـنا وعلما ، وهي في العراق تعني النبي ( ص ) وآله الأطهار ( ع ) وتعني الإمام الحسين ( ع ) بصورة خاصة ، وتعني [ الطف ] وتعني الولاء والبراء ونشر تعاليم الإسلام العظيم والكتاب الكريم ، فهي تعني كل قيم السماء الحقة ، وبيان مظلومية المرسلين بها الداعين إلى إقامة حدود الله في أرضه . . . . والخطباء سياسيون بالفطرة ، فهم يشيرون إلى مواطن الخلل في المجتمع وينتقدون اوضاعه ، ويشخصون سيئات الحكام وجورهم بجرأة المنتقد الدال على مظاهر الفساد والظلم ، فكانوا بوقوفهم المشرف يساقون إلى مقاصل الإعدام ، ويقدمون أرواحهم قرابين للمنبر الحسيني ، لأنهم  على خطى سيد الشهداء ( ع ) . )) 
     أقول : من يتصفح كتاب الدكتور سعد الحداد خطباء الحلَّة الفيحاء يجد أمثلة ناطقة بصحة ما جاء أعلاه . فقد عرف عن السَّيّد صالح الحلّي (( نقده لعادات المجتمع وتقاليده آنذاك وقد وفق في معالجة الكثير من المشاكل وما زال المعمرون يذكرون له كثيرا من الفضائل . . . وكان جريئا في منبره لا تأخذه بالله لومة لائم )) . 
     وكذلك السَّيّد محمَّد رضا الخطيب (( كان رحمه الله جريئا في النقد لا يخشى لومة لائم في الحق وما قصيدته التي مطلعها : 
(( يا عدل باسمك جارت الحكام ))          والرسم منك مآله الإعدام 
أصبحت للشهوات أي ذريعــة              فعليك منا رحمـة وسلام    
وما مجالسه إلا دليل واضح على جرأته .... )) 
     كذلك كان السَّيّد عبد المطلب المرعب (( خطيبا جريئا لا يخشى الحكومة اطلاقا )) وكان الشَّيخ حنون الحسوني (( أيام العهد الملكي يجهر بمعارضته لنظام الإقطاع على وجه التحديد إذ كان يجد فيه امتهانا لآدمية ملايين الفلاحين على يد ثلة من الإقطاع . . .))  . إلى ذلك فقد كان الشَّيخ ميران شويليه (( خطيبا ناقدا جريئا ، ذا صوت جهوري  )) . وكان السَّيّد فتح الله العميدي (( جريئا ناقدا ذا لسان حاد ولاسيما في الإشارة إلى ظواهر مجتمعية غير صحيحة يومذاك ))  
       لقد كان هؤلاء الخطباء [ خير خلف لخير سلف ] من إخوانهم الذين كان لهم شرف المساهمة في ثورة العشرين . .  فعندما هب المجاهدون لدفع الغزو البريطاني ، كان منهم الشَّيخ علي الفتلاوي (( فتحركوا عن طريق المسيب مرورا بالمحمودية والكاظمية والكوت ثم البصرة ليشاركوا الثوار في معركة الشعيبة . . . وفُقِد مع من فُقِد من الثوار آنذاك )) [ رحمهم الله جميعا ] . وشارك الشَّيخ محمَّد علي اليعقوبي (( بشعره وخطابته في تحريض العشائر العراقية في السماوة والرميثة قبل ثورة العشرين ، كما كان له دور في محاربة الاستعمار البريطاني عام 1914 م عند احتلاله للبصرة مع السَّيّد محمَّد سعيد الحبوبي .... ))       
     ولما انفجر بركان الثورة العراقية على الانكليز سنة 1920 م كانت التقارير البريطانية تشير إلى السَّيّد صالح الحلّي (( بوصفه أحد الذين أطلقوا شرارة الثورة ضدهم )) . أما المواقف المشرفة في الثورة العراقية 1920 م للشيخ باقر حبيب الخفاجي الحلّي (( فقد لازم خط النار ستة أشهر وبعدها طاردته انكلترا مدة للتشفي منه وهو مصر على المحاربة والمخاصمة )) .
     وكان السَّيّد حمد كمال الدين (( مساعد مفجر ثورة العشرين [ الشيرازي ] والوكيل المتجول بين ظهراني العشائر يحثهم على الثورة بإسلوب يفهمونه فيؤثر في إثارة شعورهم الوطني والديني ، ويضرب لهم الأمثلة النافعة بأساليب عجيبة . . .  ومن جهوده الجبارة انتصار الثورة في معركة [ بنشة ] في الحلَّة )) . 
     إلى ذلك فقد أسهم السَّيّد قاسم الخطيب الموسوي (( في حمل راية الحرية والثورة ضد قوى البغي والضلال في خطبه المنبرية الحسينية .... وفي شبابه شارك  في التصدي للاستعمار البريطاني في ثورة العشرين إذ اشترك مع عشيرة بني حسن وعشائر أخرى في تحرير مدينة الحلَّة في الثلاثين من تموز بعد انتصارهم في مدينة طويريج على المستعمرين . وكان بزيه الديني مع [ السَّيّد حسين الشرع والسَّيّد محمَّد علي ] يثيرون في المجاهدين في طويريج الحماسة ويستنهضون الهمم بروح دينية رافضة للظلم والطغيان )
     ويعد الشَّيخ الدكتور محمَّد مهدي البصير ((  أول شاعر عراقي دعا إلى أن تكون الثورة على المحتل البريطاني ثورة مسلحة لا مجرد خطب على المنابر وأهازيج وخطب في الجوامع ، بل كان من الدعاة الرئيسيين الذين أشعلوا الثورة في حزيران 1920 م . وكان دوره فعالا في التحضير لها ، إذ ذهب إلى بغداد حين كانت الثورة  العراقية على أشدها )) . وكان للميرزا ناصر سعيد (( دور مهم في تأليب الجماهير وتحفيزها ضد الاستعمار البريطاني في أحداث الثورة العراقية الكبرى سنة1920 م ، التي شارك فيها خطيبا وثائرا مساعدا لخطيب الثورة الأول الدكتور محمَّد مهدي البصير )) . 
     وما دام خطباء الحلَّة الفيحاء هذا نهجهم وهذه صفاتهم ، فمن لم يستشهد منهم فقد مات ميتة الشهداء . فالشَّيخ صافي الطريحي العتائقي  ((استشهد غدرا في قرية الصياحية قرب المحاويل على يد عصابة من نواصب اعداء آل البيت ( ع ) . وكان ضيفا على أحد أنسبائهم من الشيعة لإقامة المأتم الحسيني في داره في الثالث عشر من محرم الحرام  1358هـ . فاختطف وعذب بوضع ابر النخيل الحادة ( السّل ) وغرزها في جسمه وهو حي ، ثم اطلق عليه النار ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها ثم سحبت جثته إلى بستان مجاور . .. )).
      والسَّيّد حسن السَّيّد كاظم الأعرجي ( ت بعد 1411هـ )  (( قيل : إن المشرفين على التحقيق أمروا بإحراقه حيا ووضع وسط مجموعة من الإطارات واقفا وسكب عليه البنزين ليحرق وهو حي ..... )) .
      وسيجد القارئ أن خطباء القرن العشرين لم يرد ذكر لأغلبهم في المصادر المطبوعة ، ولولا سعي الدكتور سعد الحداد ومثابرته لما تم توثيق أغلبهم لأن مصدر الترجمة [ معلومات خاصة ] أو [ جهد شخصي ] . 
         ثقافة الخطباء 
     وبعد ، فهذا السلوك الإنساني والمواقف الجهادية تدل على درجة عالية من الوعي وعلى ثقافة رصينة نشأ عليها خطباء الحلَّة الفيحاء ، وقد يكون هذا سبب اهتمام الدكتور سعد الحداد ببيان مصادر ثقافة خطباء بابل وتحصيلهم العلمي والأدبي . فهذا الشَّيخ مهدي اليعقوبي (( كان يحفظ ثلاثة أرباع ( نهج البلاغة ) بما عليها من شروح ابن أبي الحديد وغيره )) . 
     والسَّيّد مطر الشلاه يروى عنه (( أنه كان ذا قابلية جيدة في حفظ عيون الشعر العربي بعصوره المختلفة ، ويترنم بها ، فضلا عن اشتهاره بحفظ نصوص كثيرة من النثر البليغ ، وكان ( نهج البلاغة ) لأمير المؤمنين ( ع ) في مقدمة تلك النصوص التي أدت إلى صقل طاقته الإبداعية ، واتساع ثقافته الأدبية ممزوجة بما تعلمه من علوم أخرى كالعقائد والاصول وغيرها )). والسَّيّد سليمان مرزة الحلّي (( كان راوية شعر ووعاء أدب وعيبة علم وظرف بما حفظ من دواوين شعرية من عصور مختلفة ، وزاده بلاغة ما حفظه من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( ع ) وغيرها من الخطب المشهورة ... )) 
    وتميز السَّيّد قاسم الخطيب الموسوي (( بسعة الثقافة العامة واتصف بسرعة البديهة وحفظ المقطوعات لكبار شعراء العربية )) . ودرس الشَّيخ فاضل نظر علي الحلّي (( العلوم الأولية وفن الشعر بنوعيه والخطابة فأجاد ، وحفظ العديد من سور القرآن الكريم وبعضا من خطب نهج البلاغة والأدعية ...)) 
     وفي هذا الشأن لابد من الوقوف ولو قليلا عند السَّيّد صالح الحلّي لما كان يتمتع به من مؤهلات . لقد كانت له أطول ترجمة خصه بها الدكتور سعد الحداد ص150 ـــ 175 مما يدل على علو منزلته ــ التي احتلها بكل جدارة ــ عند الحداد أولا وبين خطباء الحلَّة الفيحاء ....
لقد حفظ السَّيّد صالح الحلّي (( القرآن الكريم وحفظ نهج البلاغة عن ظهر قلب )) إلى ذلك فقد امتلك السَّيّد صالح الحلّي (( كفاءة العلم وثقافة الأدب وجرأة النقد ، وجهارة الصوت ، وسرعة البديهة والحفظ وقوة التأثير في السامعين مع تمكن في الطرح للموضوعات المراد الحديث عنها بسلاسة ويسر )) . 
     لقد كان السَّيّد صالح الحلّي (( هبة السماء إلى المنبر الحسيني ، ليرتقي به إلى مصافٍ جديدة من السمو الروحي والعقائدي وليؤسس نمطا جديدا في فن الخطابة . . . كان ثمرة ناضجة آتت أكلها بعد حين بما امتلك من براعة وجرأة ومقدرة على التحليل وايصال صوت الحق انطلاقا من قضية الإمام الحسين ( ع ) وثورته الخالدة )) . 
     ينقل لنا الدكتور سعد الحداد عن جعفر الخليلي ص156 قوله : (( التزم [ السَّيّد صالح الحلّي ] قراءة المأتم الحسيني لجمعية ( المكارين ) الذين يؤجرون حميرهم وبغالهم للمسافرين بين النجف والمدن المتصلة بها ، فقرأ لهم عشرة أيام بل الأصح أنه حاضر لهم عشرة أيام ، لأن خطب السَّيّد صالح كلها أشبه بالمحاضرات منها بأي شيء آخر ، فلم يخرج خلال هذه الأيام العشرة عن حديث الحمير ، والبغال ، والقوافل ، وأخبارها القديمة والحديثة ، وقصصها . فكان الناس بمختلف طبقاتهم يعافون أشغالهم ويحضرون تلك المحاضرات التي ظلت مدة طويلة موضوع أحاديث الناس وتفكههم ومثار اعجابهم وغبطتهم له على هذه الموهبة )) . 
     وفي ص170  ينقل لنا الدكتور الحداد عن السَّيّد ميرزا مهدي الشيرازي قوله : (( السَّيّد صالح الحلّي فقيه ومجتهد ، كان يصعد المنبر أيام قصاص التمر ويتكلم شهرا كاملا على المنبر المباحث الفقهية في الزكاة ويناقشها ويبدي رأيه فيها على طريقة المراجع والمجتهدين )) 
     إلى ذلك مما قاله الخطيب الشَّيخ مهدي شريعة زادة : (( انطوت بموته صفحة من صفحات العلم والفصاحة والجهاد ، . . .  كان يملك لسانا أضر على الظالمين والمجرمين من مئة ألف سيف )) . 
      وأحب الإشارة إلى موقف الدكتور سعد الحداد ، فهو من باب [ احترام الرأي الآخر ] وعلى قاعدة [ اذكروا محاسن موتاكم ] و [ مَنْ منا لم يُخطئ ؟] ، أشار إشارة عابرة ( دون تفصيل ) خلال ترجمة السَّيّد صالح الحلّي إلى ما كدر حياته ، من ذلك ما قاله الشَّيخ أغا بزرك الطهراني : (( السَّيّد صالح ، عالم فاضل وخطيب شهير ... أحد مشاهير خطباء العراق وأكابر رجال المنبر ، وكان موهوبا قوي الاسلوب ، حسن البيان ، خشن اللسان ، متوقد الذكاء ، قوي الحافظة ، كثير الحفظ ، وله في ذلك قضايا غريبة ، فطالما قرأ القصيدة أو المطلب أو الرسالة مرة واحدة ثم تلاها من حفظه دون زيادة حرف ولا نقصان ، وله من هذا القبيل حوادث غريبة أيام الثورة (( ثورة العشرين )) وكان عبقريا لامعا وأديبا بارعا ، ورجلا فذا بكل ما لكلمة الرجولة من معنى ، لكنه رغم هذه المواهب قد أضاع نفسه وكدر حياته بنفسه حتى قضاها في هم وضيم وخوف ورهب وتشريد وطرد وغير ذلك )) . وكذلك قول السَّيّد داخل السَّيّد حسن : (( إن السَّيّد [ صالح ] كان شديد التمسك برأيه ، كثير الاعتداد بنفسه ، قوي الشكيمة ، متصلب الموقف ، شديد اللهجة ، واثق الشخصية ، دائم التحدي والاستفزاز بحق وبغير حق )) . 
     هذا ولم يذكر الدكتور الحداد شيئا مما يمكن أن يُعد [ مثلبة ] في جميع تراجم الخطباء ، بل نجده حريصا كل الحرص على ذكر المحاسن ( وكل إناء بالذي فيه ينضح ) . 
         إفادة الباحثين :
     من السمات البارزة في منهج الدكتور سعد الحداد في كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء [ إفادة الباحثين ] خدمة لهم ، وتيسيرا لسبل البحث الأدبي . 
الناس للناس من بدو ومن حضر      بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم 
     وهذا خلاف ما نجده عند الكثيرين ممن يبخل ويحرص أشد الحرص على عدم الإفادة ، لأسباب أنانية بحته ... لقد أشار الدكتور سعد الحداد من خلال تراجمه لخطباء الحلَّة الفيحاء إلى مؤلفاتهم المطبوعة والمخطوطة [ الضائع منها والموجود ] وهذه الإشارة ليست بالأمر السهل أو الهين ، بل تحتاج إلى جهد كبير ومتابعة ، ذلك أن ثلث عدد الخطباء حوالي ( 30% ) منهم لم تذكرهم كتب التراجم . وسأذكر بإيجاز أمثلة لذلك ( كي يقف القارئ الكريم على هذه الإفادة ) منها :
     ما جاء في ترجمة الشَّيخ أحمد أبو مراشق الحلّي : (( وهو من الذين ضاع تراثهم ولم تدون أشعارهم وأخبارهم )) . وفي ترجمة الشَّيخ علي الجاسم الأسدي : (( كان مكثرا من نظم الشعر ، وجمع أشعاره ابن أخته الشَّيخ أحمد الراضي وكان بحوزته في الحلَّة ، لكنه فقد ... )) 
     أما في ترجمة الشَّيخ عبد الوهاب الطريحي : (( ومن مجموعه الشعري الحسيني ننقل قصيدته التي لم ينشر منها سوى أبيات متفرقة هنا وهناك للتوثيق والفائدة )) 
      ولا يخفى ما في هذه الأمثلة ــ وسواها العشرات في الكتاب ــ من فائدة . إلى ذلك فان بعض الخطباء فقدت أشعارهم لأسباب وربما تم العثور على قصيدة أو اثنتين أو أكثر فيشير الدكتور الحداد إلى المصدر ويذكر اسم الشخص الذي بحوزته القصيدة . 
     ولم ينس الدكتور الحداد الاشارة إلى المطبوع من دواوين شعر الخطباء سواء أكانت من جمعه وتحقيقه أم نشرها سواه .                                                                         أما إذا كان للخطيب المترجم له كتاب أو ديوان شعر [ مخطوط ] نجد الدكتور الحداد يذكر :   
 1ـ إذا كان لديه نسخة منه ، أصلية أو مصورة ، مع بيان عمله فيه . 
2 ــ إذا كان قد اطلع عليه ، ومكان وجود المخطوط . 
3 ــ اسم الشخص الذي بحوزته المخطوط .
4 ــ قد يكون للخطيب مخطوط يذكر بعنوان ، ويشير [ في الهامش ] إلى أنه قد يرد بعنوان آخر في المصادر ، ويذكره . 
5 ــ يذكر إذا كان الكتاب أو الديوان المخطوط فقد بعد موت الخطيب . 
6 ــ نادرا ما يذكر الكتاب أو الديوان المخطوط دون تعليق . 
     ومما له علاقة بإفادة الباحثين ما ذكره الدكتور الحداد [ ما استشهد به ] من نصوص شعرية للشعراء من خطباء الحلَّة الفيحاء . 
         النصوص الشعرية: 
     لقد أوضح لنا الدكتور سعد الحداد أن خطباء الحلَّة الفيحاء لم يكونوا مجرد خطباء توارثوا الخطابة [ أبناء وأحفاد الشَّيخ شهيب الكلابي أو الشَّيخ سلمان الصالحي ] بل نجد فيهم شعراء موهوبين ينظم في [ الفصحى والعامية ] إلى جانب مؤلفاتهم في مجالات مختلفة كالتفسير والحديث والتاريخ . . . لذلك نجد الكثير من نماذج الشعر يستشهد بها الدكتور الحداد . ويمكن إيجاز سمات منهجه في هذا الجانب أنه : 
     يستشهد بالشعر [ الفصيح والشعبي ] . وحجم النماذج الشعرية متفاوت حسب وفرة المصادر . 
      وأنه غالبا ما يختار من أشعار خطباء الحلَّة الفيحاء ما كان في رثاء الإمام الحسين ( ع ) ، من ذلك قول السَّيّد ناصر آل العالم الحلّي : 
هو(( الحسين )) وكم في اسمه رهب        منه الطغاة على الأعقاب تندحر 
هو (( الحسين )) وكم في ذكره ألم         على النفوس بها من حزنها كدر 
فهـل سمعـت قتيلا وهـو مزدهـر          أم هل رأيت شهيدا وهو منتصر ؟ 
 أو مما كان في آل البيت الأطهار ( ع ) ، من ذلك قول الشَّيخ عبد العظيم الصفار في السَّيّدة فاطمة  أم البنين زوج الإمام علي ( ع ): 
أنظـر إلى (( أم البنين )) فـإنـها              هبة السماء لحيدر وعطاءُ
لما التقى شرف الإمام وشأنها              بـمكانـه وتـناسـل الأبـنـاءُ 
ولدوا البنين الصالحين فيا لهم              من فتيةٍ ولـدتهم الصلحاءُ
     وقد نجد الرثاء ، ومن ذلك قول الشَّيخ عبد الشهيد الشهيب في رثاء ابن عمه الخطيب الشَّيخ محمَّد عبد الحسين الشهيب والد الدكتور البصير : 
شــاء الإلــه وقــد قــضـى               أنْ كـلَّ شـيءٍ فهو زائـــلْ
ولـقـد أرى أنّ الــــردى                 وافــاه فـي حـالٍ كـسائــلْ 
فـلــذاك جـــاد بـنـفســهِ                  كــي لا يــكون يــرد آمـلْ 
      أو نجد المدح ، كقول السَّيّد قاسم الخطيب الموسوي في مدح الوجيه الحاج حسان مرجان لبنائه حسينية ابن ادريس في الحلَّة : 
يا سائلي عن خدينِ المجدِ والشانِ      ذاك ابنُ مرجان مَنْ يُدعى بحسانِ 
يُـدعى بحسان والإحسانُ شيمتُهُ       أحيا سجايا الأُلـى مـن آل قـحطـانِ 
     أو الغزل ، كقول السَّيّد مرزه آل سليمان الحلّي : 
هجرك شلع دلالــي مـن أسـبـح         أي والجابت الوادم مـن أســبـح
آنـه اويـاك يمـدلـل مـن أسـبـح          بـحوض الـكوثـر يشكون بــيـّه
     ومن الجدير بالذكرــ مما له علاقة بالشعر ــ أن هوامش الكتاب لا تخلو من بيان معاني الكلمات أو الإشارة إلى العروض [ لاسيما الإقواء ] وكذلك التضمين ، إذ نجد في الهامش اسم الشاعر القائل للبيت او شطره ، وقد يهمل ذكره لشهرته . من ذلك ما جاء ص248 : 
غـداة ( محمَّد ) قـد حـل فيـها          ( وما حب الديار شغفن قلبي ) 
     إلى ذلك فلا تخلو تراجم خطباء الحلَّة الفيحاء من [ التاريخ الشعري ] ، وهذا يجعلنا نطمئن إلى سنة [ الولادة ــ الوفاة ] لأن الكثير من الخطباء لم تسجل لهم المصادر تاريخ الولادة أو الوفاة . من ذلك قول السَّيّد جعفر الحلّي يؤرخ ولادة السَّيّد جعفر الشرع : 
ونـهـر أرخــوا ( بــل             غـزال فـي مـآقـيـه )  = 1316 هـ
    ولا يخفى جمال بيت التاريخ ، وأن الجعفر : النهر الصغير . كذلك فالدكتور سعد الحداد استشهد  بـ  [ التاريخ الشعري ] لتحديد سنة وفاة الخطيب السَّيّد ياسين القزويني ، على التقريب . ولا أدري إن كان هذا الاهتمام بالتاريخ الشعري وعدم خلو التراجم منه ،له علاقة بكتابة الدكتور سعد الحداد لهذا النوع من الشعر .... 
           مناقشة الآراء: 
     ومما له علاقة بالإفادة مناقشة الآراء ، فلا يخفى أن الدكتور سعد الحداد باحث ، قدير ، متمرس ، وأن له اليد الطولى في هذه المناقشات والقول الفصل الذي يعضده لاسيما ذكر المراجع والمصادر على اختلاف أنواعها ، وهذا ما يجعل مناقشته للآراء التي ترد في سياق تراجم خطباء الحلَّة الفيحاء ذات أهمية كبيرة . وأطول مناقشة في كتاب خطباء الحلَّة الفيحاء تلك التي استغرقت الصفحات [ 33 ــ 41 ] والتي تتعلق بحلية [ الشَّيخ مغامس بن داغر ( ت ق 9 هـ ) ] . ومناقشة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى ، تلك التي ناقش الدكتور سعد الحداد ص79 ما ذهب إليه الباحث سلمان آل طعمة فيما يخص مكان وسنة وفاة الخطيب السَّيّد حسن نعمة القطيفي ( ت ق 13 هـ ). 
     هذا ، وقد يكتفي الدكتور سعد الحداد عن المناقشة بتعليق في الهامش .. وكم جميل هذا التعليق حول وفاة السَّيّد صالح الحلّي في داره بجسر الكوفة : 
(( أشار الشَّيخ السماوي أن وفاته كانت في داره بالحلَّة ، وأعتقد أن ما أوردناه هو الأكثر تواردا . ينظر : الطليعة 1/ 431 )) . 
     جمال هذا التعليق كونه جاء بأدب جم احتراما لمنزلة القائل .... وقد يأتي التعليق معطرا بكلمة [ سهو ] .منه ما جاء  ص 184 : 
       (( أقول [ القول للدكتور الحداد ] : هو سهو وقع فيه الأستاذ الثرواني ، فالسَّيّد حسن هو أخ السَّيّد محمَّد رضا ، وهو والد الخطيب السَّيّد قاسم الخطيب )). 
     وهذا من محاسن الدكتور سعد الحداد ، فعندما يجد السهو من أحد المؤلفين يرد ردا جميلا ، يذكرني بقول الشاعر : 
أفـلا كان  مِـنـك رَدّ جـمـيـل         فـيـه لـلنـفـس راحة من عـنـاء 
لكن المشكلة ان عناء البحث لا يعرفه إلا الحداد وأقرانه (( وقليل ما هم )) . . . 
     وقد يلجأ الحداد إلى الهامش بإضافة عبارة زيادة عما جاء في المتن أو تصويب لما جاء في المتن ولكن دون تعليق .... إلا أنه نادرا ما يكتفي بذكر اختلاف المصادر دون مناقشة أو تأييد الأقوال . ولإزالة اللبس يلجأ أحيانا إلى الجمع بين الأقوال ــ التي تبدو متعارضة ــ أما كيف يجمع بين الماء والنار ؟ فتلك طريقة امتلكها من خلال ممارسته للبحث والتحقيق ،وثقافته وسعة أفقه ..... 
     ولا بأس من الإشارة إلى أن استثمار الدكتور سعد الحداد لهوامش الكتاب في مناقشة الآراء تأخذ حيزا قليلا بالمقارنة مع المناقشات التي وردت في متن الكتاب . ... وبمناسبة ذكر الهوامش أقول : إن الدكتور سعد الحداد لم يثقل كتابه خطباء الحلَّة الفيحاء بكثرة الهوامش ، بل هي قليلة نسبيا وقصيرة ، ما خلا التعريف بالأعلام الذين يرد ذكرهم خلال تراجم الخطباء . . وربما كي لا يتضاعف حجم الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته ( 504 صفحات ) من القطع الكبير 17 × 24 . ولئلا يشغل القارئ بها عن متابعة قراءة المتن ، فقد يكتفي بذكر اسم الراوي وعلامة التنصيص دون اشارة إلى المصدر في المتن أو الهامش ( ص108 ــ 109 مثلا ) . وربما يعتمد أحيانا على معرفة القارئ واطلاعه ويترك ذلك له ويخصه به ، من ذلك ( قصة قنديل الذهب المعروفة ص238 ) . 
     إلى ذلك فالدكتور سعد الحداد يشير أحيانا إلى اختلاف سنة الولادة ، فبدلا من أن يقول في ترجمة الخطيب : ولد سنة كذا وقيل سنة كذا ، نجد الاشارة للاختلاف في الهامش (الهامش ص 128 مثلا ) . ويبدو لي أن سبب ذلك : بعد إتمام [ اكتمال ] الترجمة عثر على الاختلاف ، فبدلا من تغيير النص أو تعديله أشار في الهامش إلى الاختلاف ، وهذه الإشارة تحسب لصالح الدكتور الحداد لأنها تدل على استمراره في البحث دون توقف أو اهمال . . . وربما لأنه يجد القول ضعيفا مخالفا للأوثق أو خلافا لما اجتمعت عليه المصادر . من ذلك ما جاء في ترجمة السَّيّد قاسم الخطيب الموسوي (ص374 س 8 ): توفي سنة 1405 هـ / 1984 م . وفي هامش الصفحة : وقيل : 1904 ــ 1994 م . ولا ننسى أن كلمة [ قيل ] تشعر بضعف الرواية سواء أذكر المصدر أم لم يذكره .ولهذا يمكن القول أن الدكتور سعد الحداد تعامل مع السنوات لا سيما [ولادة ــ وفاة ] بحرفية مهنية يدعمه في هذا المنهج قلة و[ انعدام ] التدوين ، والحق أنه وفق في هذا .... 
          الموسيقى وطريقة الأداء: 
   لابد للخطيب أن يتميز برخامة الصوت وجهوريته ، لا سيما أيام [ عدم ] وجود مكبرات الصوت . . . وقد اهتم الدكتور سعد الحداد اهتماما ملحوظا واشار بكل وضوح خلال تراجمه لخطباء الحلَّة الفيحاء إلى امتلاكهم ناصية الخطابة وتوافر شروطها فيهم . وبإيجاز أشير إلى بعض ما ذكره مما له علاقة بجمال الصوت والموسيقى وطريقة الأداء ، وأبدأ بالقرآن الكريم : فالشَّيخ حسن نظر علي (( قارئ قرآن مجيد )) . وتميز الشَّيخ عبد الله القريشي (( بقراءته للقرآن الكريم )) . وتربى الشَّيخ عبد الكاظم جوير في كنف والده الشاعر الحسيني وقارئ القرآن المعروف محسن جوير الربيعي (( قرأ في الكثير من المناسبات الدينية ، وتمرس في قراءة القرآن الكريم حتى صار استاذا في تعليمه وتلاوته ، وتخرج على يده عدد من القراء ..... )) .                         أما السَّيّد حسن السَّيّد كاظم الأعرجي فقد (( كان يحتفظ بأكبر مكتبة صوتية للقراءات القرآنية  لأشهر قراء القرآن الكريم . . . وكان يعنى بمخارج الحروف ، ويصر على التحريك الصحيح للكلمات ، ويتحدث بلغة فصحى مبتعدا عن العامية إلا في مجالس الريف التي تتطلب منه استعمال العامي للتوضيح الافهام . . . وينطق الكلمة الفصيحة بحركاتها فتخرج من فمه منغمة تجلب الانتباه . .... )) . 
      وبعد أن أتقن السَّيّد قاسم الخطيب الموسوي فنون الخطابة ارتقى المنبر (( وساعده في ذلك جهورية صوته وقوة القائه )) . كذلك الشَّيخ أحمد أبو شلال (( يتمتع بصوت جهوري جميل مميز )) .
      ومن المبدعين في الموسيقى الشَّيخ عباس الزيوري الحلّي فقد (( كان عالما بالإيقاع ، مشهورا بصناعة الموسيقى ، وقد تخرج عليه جماعة ..... )) وأما الشَّيخ يحيى الدولابي فــ (( ينسب إليه ابتكار طور المذيل المشتق من بحر المنسرح . وهو أول من نظم فيه القصيدة التي مطلعها : 
درب   الــهـــوه   ســــيــن          ولام   حـــدر   الــــدرك 
الألـف   آه  مــن  الـهـــوه          جـم حـيـد كـلـبـه انـجـــوه 
حـالات إلــه مـلـهـــن دوه           كـلـمــن تـولـع بـيـه هـــام
                  حـــــالــــــه اخـــــــبـــــرك 
ولابد من ذكر اشارة الدكتور سعد الحداد ص 231 [ أعني قوله ] : ونسبت القصيدة للشاعر ملا منصور العذاري الحلّي أيضا . 
     وممن تميز بالأداء الشَّيخ محمَّد المُلَّا الحلّي (( وهو معدود في طليعة الذاكرين والقراء الذين امتازوا في نهج طرق خاصة في النياحة بألحان مشجية وأوزان مختلفة لم يتداولها العروضيون قبله ، ولم يزل الكثير منه ينشد في المحافل الحسينية )) . 
      كذلك الشَّيخ علي بن قاسم [ جاسم ] الأسدي (( كانت له طريقة خاصة في ذلك عُرِفت آنذاك بالطريقة القاسمية ، امتازت برقة نغمتها وطريقة تلحينها الخاص )) . 
     أما الشَّيخ هادي عجام ( المسيباوي الكربلائي ) ، فينقل لنا الدكتور الحداد قول صاحب معجم الخطباء عنه ص426 : (( الشَّيخ هادي الكربلائي مدرسة مستقلة في الخطابة الحسينية الخالصة ، منفرد بإسلوبه النائح ، متميز بصوته الشجي ، مجيد لمختلف الطرائق والأطوار المنبرية ، وخصوصا الطريقة الفائزية المشهورة التي يتفاعل معها الجمهور فكان إذا ارتقى الأعواد سيطر على النفوس ، وهيمن على المشاعر ، واستولى على القلوب ..... ولعله أول خطيب في العراق يُقتطع من  مجالسه ما يتعلق بمصيبة الحسين ( ع ) ، وما ينشد من شعر ، وتطبع على أشرطة التسجيل وتنشر في المحلات والبيوت والأماكن العامة ..... )) . ويعلل الأديب الكربلائي الشَّيخ حمزة أبو العرب أسباب نجاحه وبروزه بين أقرانه فيقول : (( ... مع وجود العدد الكبير ممن كانوا يعاصرونه من القراء والخطباء ، إلا أنه كان يبزهم بهاتين الميزتين : الصوت العذب ، وحسن ترنيمه بتلك الألحان الشجية الحزينة ذات الوقع المؤثر في النفوس كالركباني والحدي والبحراني بأنواعه المختلفة التي كان يستمطر بها الدموع ويبكي الجموع من محبي أهل البيت ( ع ) أي بكاء )) . 
    أقول : لابد لهاتين الميزتين من ثالثة ، تتمثل في النصوص الشعرية التي ينظمها [ أو يختارها ] كونه بحسب قول مؤرخ كربلاء الكبير السَّيّد محمَّد حسن آل طعمة : (( أديبا ذا تظلع ومعرفة بالشعر حيث ينظم القصائد والمقطوعات ، فشعره سليقة أدبية متينة وذوق سليم )) 
.
          الاستطراد :
     لم يكن استطراد الدكتور سعد الحداد في تراجمه لخطباء الحلَّة الفيحاء حشوًا وسدًّا للفراغ ، أَو اطالة للكتاب . بل جاء محسوبًا حسابًا فنيًّا دقيقًا يؤدي وظيفتين ، الأولى : تتعلق بالتراجم ذاتها لتكون أكثر شمولًا واشراقًا ووضوحًا  ، وفي هذا مراعاة منه لرغبة القارئ في الوقوف على جوانب لو اهملها الدكتور الحداد لأثارت في نفس القارئ تساؤلا وميلًا لمعرفة المزيد . . . والثانية : تتعلق بالجانب الأدبي بصورة عامة  [منهج البحث ] ليكون الكتاب أكثر فائدة ومراعاة لمطالب المختصين والدارسين لتاريخ الأدب بصورة عامة  والسيرة  بشكل خاص . 
     وقد تكون كلمة [ استطراد ] غير دقيقة لبيان المعنى المراد ، وربما كانت الأمثلة خير دليل على الإيضاح والبيان ، ذلك أن ما سأذكره على أنه [ استطراد ]أشبه بالملح الذي يضاف للطعام أو السكر عند اضافته للشاي . وما ذنب الحداد إذا كان القارئ مصابا بارتفاع ضغط الدم ( من أمثالي ) أو بداء السكر ( عافاكم الله ) ؟ ! . 
       وما دام الكتاب يتحدث عن الخطباء فليس خروجا عن الموضوع [ مضمون الكتاب ] ما نقله الدكتور سعد الحداد في ثنايا ترجمته للخطيب الشَّيخ عباس الزيوري الحلّي ص 100 عن الشَّيخ النوري في ( جنة المأوى ) من (( كرامة له اتفقت في 10 جمادي الآخرة سنة 1299 هـ مع أخرس من أهالي ( بورما ) اسمه آغا محمَّد مهدي أطلق لسانه في  (مقام الغيبة ) بسامراء واحتفل في الصحن الشريف بأمر الإمام السَّيّد ميرزا حسن الشيرازي بمناسبة ظهور تلك الكرامة وكان الزيوري مع الأخرس في الباخرة حين توجه من بغداد إلى سامراء )) . 
     كذلك أمانة ونزاهة الشَّيخ مهدي الخطيب ص 285 : إذ (( كان الشَّيخ مهدي يستلم نيابة عن أبيه ( الحاكم الشرعي ) واردات المحكمة ورسومها المالية بصفته كاتبا لها ، فتجمعت عنده مبالغ طائلة بلغت يومها خمسة آلاف روبية ، فحافظ عليها إلى قيام الحكم الوطني في البلاد سنة 1339هـ ــ 1921م وتأسيس الوزارات ، والدوائر التابعة لها ، فبادر بتسليم تلك المبالغ كاملة إلى الدوائر المعنية بشكل اصولي فأدخلت في السجلات وقيدت ايرادا لخزينة الدولة ، وحصل نتيجة ذلك على كتاب شكر من الجهات الرسمية لأمانته ونزاهة نفسه )) . 
     إلى ذلك نجد الشَّيخ صادق الشَّيخ ناجي الحلّي ، الذي فقد بصره في صباه بمرض الرمد ... كان ينتقد الكثير من التصرفات الشاذة في المجتمع منها مثلا : (( مضغ العلك واللهو بالكرزات والحديث والقهقهات عند دفن الأموات في المقابر ، وكذلك الحديث والمواددة بين الحاضرين في مجالس الفاتحة التي تقام في الحلَّة ، ومن انتقاداته البذخ المفرط في الولائم لمجالس الفاتحة ....)) وعندما سئل في مشهد الشمس .... (( عن مقامات شريفة بنت الحسن المتعددة في بابل وأيها أصح ؟ .. أجاب الشَّيخ في حينها أن الإمام الحسن ( ع ) ليس له أي ولد أو بنت مدفونين في العراق ما عدا الذين استشهدوا في معركة الطف . وقال : إنني أتحدى من يثبت خلاف ذلك من أي مصدر تاريخي . وقد قال ذلك بمكبرات الصوت فحدثت بعدها ضجة كبيرة في المسجد ضد الشَّيخ خاصة من النساء وأردنَ أن يعتدينَ عليه لولا إخراجه من الباب الخلفي . . . وفي مسجد الكوفة وعلى أحد الدكات كان يقرأ دعاء كميل ليلة الجمعة . . . في شهر رمضان . . . وعند انتهائه من الدعاء انتقد ما يُعرف بقدر الأمير [ كـدر الأمير ] وقال إنه بدعة ، وطلب من النساء بالخصوص ترك ذلك ،  فبدأنَ بانتقاده ومنهن من شتمته .. )) . 
     وأدعو القارئ الكريم إلى مطالعة المقال على الصفحات 359 ــ 369 والذي وصفه الدكتور الحداد بقوله : [ لأهميته ووثاقته ننشره للتاريخ في هذا الكتاب ] ليقف على ملحمة الكفل . 
     ومن طريف الاستطراد ما أفادنا به الدكتور سعد الحداد معنى كلمة [ الروضخون ] : كلمة فارسية معناها قارئ الروضة ، والمقصود بالروضة كتاب قديم في مقتل الحسين ( ع ) اسمه [ روضة الشهداء ] . وقد سبق ذلك الإشارة إليه في ترجمة الخطيب الشَّيخ سلمان آل نوح الكعبي ص92 فقال : كان أول خطيب من خطباء عصره يرقى المنبر مرتجلا من غير كتاب لعظم ذاكرته وذكائه الفطري ، بينما كان الخطباء لا يرقون المنبر إلا وبيدهم كتاب [ الروضة ] ولذلك حصلت له الميزة والتفوق ، وقد أسمع الناس كثيرا من الأشياء التي لم يسمعوها . . . 
     ومن جميل مساهمات خطباء الحلَّة الفيحاء وريادتهم لأدبنا الشعبي ما نقله لنا الدكتور سعد الحداد في ترجمة السَّيّد مرزة آل سليمان الحلّي ص 132 عن مقال للأستاذ كاظم السَّيّد علي جاء فيه : كان السَّيّد يكتب الشعر باللغة الفصحى وبالعامية أيضا وكان للأخيرة النصيب الأكبر في كتاباته فهو الذي وضع الأسـس لفن [ الشبكها ] أحد الفنون التابعة لــ [ المربع ] وينظم على بحر [ مجزوء الرمل ] مع زميله الشاعر الحاج زاير الدويج عندما قال : (( داده خي عون الشبكها )) وهما يسيران في سوق ( الجعارة ) في منطقة الحيرة حاليا التابعة لقضاء المناذرة ، ولهذه قصة لا مجال لذكرها ، فأخذ السَّيّد مرزة الحلّي مكملا لمستهل زميله الدويج مرتجلا : 
مـن تطب للسوق صبحة         صابت الدلال فرحه 
جـيت اعـاملهه الوكحـه         غطت الروبة ابطبكها 
                        × × × × × 
فأجابه الحاج زاير :
لابسه الريزه ابـطبـكها           اولايك اعـليه اشلطفه 
يـل ردت مـني وصفها          وردة ملفوفة بـوركـها 
     وإلى آخر القصيدة ، حتى أصبح [ الشبكها ] فن من فنون أدبنا الشعبي العراقي نسبة إلى هذه القصيدة الشهيرة . 
     وجاء ص 307 في ترجمة ( الميرزا ناصر سعيد ) : يقول الشاعر صلاح اللبان : (( هو الذي نقل القصيدة الشعبية المشهورة التي مطلعها : 
ذبيتْ روحي اعله الجَرش       ادري الجَرش ياذيهـا  
والله لـكسر الـمـجرشــه         والعن ابــو راعـيـهـا
     والمعروفة بقصيدة المجرشة ، نقلها إلى بغداد بعد أن استلمها من الشاعر السَّيّد علي بن السَّيّد حيدر الحلّي الذي طلب منه أن لا يذكر اسمه عليها خشية التسلط الإقطاعي في حينها . ومن بغداد اشتهرت بعد أن نظم على منوالها الشاعر والصحفي الملا عبود الكرخي ونسبت إليه خطأ . 
     على أن مطلع القصيدة من نظم إحدى النساء الريفيات المجهولات . ونظم عليه الشعراء ، وأول من بادر بذلك هو السَّيّد علي السَّيّد حيدر الحلّي . وهذا ما حدثني به المرحوم السَّيّد مناف حفيد الشاعر السَّيّد حيدر الحلّي عام 1972 م  . وقد يكون السَّيّد نور من المشخاب هو المبادر الأول )) . 
          الفكاهة والظرافة :
     يهتم الدكتور سعد الحداد بذكر الصفات الشخصية لخطباء الحلَّة الفيحاء ، ومنها اتصاف بعض الخطباء بالظرافة . . فالسَّيّد مرزة آل سليمان الحلّي (( كان سريع الجواب حاضر النكتة )) . و عن نكات وفكاهة السَّيّد محمَّد رضا الخطيب ينقل لنا الدكتور سعد الحداد قول الحاج محمَّد حسن الكتبي : (( فلم يحل لأنسان يسعه الركب إلى انسان آخر غيره ، ففي نكتته حلاوة وفي فكاهته طلاوة قلّ أن نجدها عند غيره )) . 
     وفي ترجمة الشَّيخ محمَّد رضا الشهيب ، ينقل لنا الدكتور سعد الحداد قول الشَّيخ اليعقوبي : (( كان مثالا للظرافة والفكاهة وسرعة النكتة والنادرة التي لا يكاد يجاريه فيها أحد ، ولعل هذه الصفة من أجلى الظواهر التي حبَّبته إلى كثير من العظماء )) . وفي ترجمة الشَّيخ حسين الشهيب نجد علي الخاقاني يصفه بقوله : (( خطيب مفوه ، وأديب رقيق الروح ، ذو خلق سامٍ وأدب ومفاكهة ، شاهدته غير مرة في الحلَّة . . . لم أجده إلا بما يسرٌّ المشاهد من معسول القول ، وخفة الروح ، ومليح النكتة )) 
    إلى ذلك ، الشَّيخ حنون الحسوني (( ولقد عرف عنه روحه المرحة الفكهة ، وكانت المجالس الكثيرة التي يؤمها تزخر بأشعاره وقصصه وطرائفه حتى أن العديد ممن عرفه وجالسه كانوا يتداولون تلك الأشعار والقصص والطرائف ويتندرون بها فيما بينهم )) 
       أما الشَّيخ باقر بلاكت فقد (( كان مصلحا اجتماعيا  مؤثرا في حل النزاعات .... فكان سريع البديهة ويطرز أحاديثه بالوعظ والأشعار . . فضلا عن النكات اللطيفة والمرح ، لذا كان الجميع يرغبون الحضور في المكان الذي يحل فيه لما يضيفه من طرائف وفكاهة تتناسب مع جميع الأعمار رجالا ونساءً . . . )) . 
      هذا وقد نقل انا الدكتور سعد الحداد من طريف ما يروى عن الشَّيخ حسين جاووش الحلّي : (( نزل هو والشَّيخ صالح التميمي الشهير ضيفين على رجل من بني ( لام ) بين واسط والبصرة فلم يكرم مثواهما وزاحمهما من شدة جشعه على الزاد الذي قدمه لهما في صحن صغير فنظما هذه القطعة المشتركة ، والصدور منها للتميمي والأعجاز لصاحب الترجمة  :  
رأينا من عجيب الدهر صحنا      صغيـر الحجـم بـيـن يـدي لـئيـم 
كـأن حُـنـوّ صاحـبـه عـلـيـه        ( حنو المرضعات على الفطيم ) 
تــدافــع دونــه كـلـتـا يـديـه         مـدافـعـة الـغيـور عـــن الحريم 
يـــود بــأن عـينـا لا تــراه          فــيـحـجـبـه بكــهـف أو رقـيــم 
فـلـو بالـخلـد قابــلـه أكـيــل          لــفـرّ بـه إلى أصل الجحيــــم 
ذميم الخلق والأخلاق أمسى         يزاحمنا على العيش الـذمـيـــم      
لعكس الحظ عاشرنا أناسا           بطرق  ألـلـؤم  أهـدى من تميم 
فغضب صديقه التميمي من تعريضه في البيت الأخير وأمسك عن النظم ، فاعتذر جاويش [ جاووش ] بأن القافية عرضت له في الطريق . 
     ويذكر الدكتور سعد الحداد في ترجمته للشيخ علي الجاسم الأسدي أنه (( كان شديد الكراهة والغضب لذكر عمره ، ولم يتزوج ، مما دفع بعض الظرفاء إلى مداعبته شعرا ، ومنهم الوزير الشاعر محمَّد حسن أبو المحاسن )) . 
أقول : سبق مني الإشارة إلى أن الدكتور سعد الحداد لم يذكر في تراجمه لخطباء الحلَّة الفيحاء شيئا مما يمكن أن يُعد [ مثلبة ] . لهذا فهو في ترجمته للشيخ علي الجاسم لم  يذكر ولو بيتا واحدا مما قيل في مداعبة الشَّيخ ، وهي بين يديه ..... 
    ومما له علاقة بالطرافة ، ما ذكره الدكتور الحداد في ترجمة السَّيّد أحمد العميدي فــ (( بعد أن أدركته الشَّيخوخة يتجشم عناء السفر من الحلَّة إلى المسيب يومذاك راكبا حماره لانعدام وسائط النقل الحديثة المتوافرة في الوقت الحاضر ..... ومن الطريف ذكره أن بعض الأهالي البسطاء كانوا يقبلون الحمار لشدة فرحهم بقدوم السَّيّد العميدي إليهم )) . 
      وبعد هذا الذي رأيناه من الدكتور سعد الحداد ، فليس من الغلو القول : 
شكرا لمن أحيا المآثر ، شكرا لمن للخير ناشر ، ولجهده الميمون الكل ذاكر ، تراجم الخطباء حسنها ساحر ، سطرها [ سعد ] الكوكب الزاهر ، عطرها من روضه الناضر ، وها هي اليوم كالمثل السائر ، لا عفوا كالفلك الدائر . (( فو الله ما أَدري أَهو نثر ساحر ... على الطرس يبدو منه أَم سحر ناثر )).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد جابر الربيعي 
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/04/19



كتابة تعليق لموضوع : سِيَرٌ وتَراجُمٌ بلَونِ النَّهارِ  نَظَرَاتٌ في خُطَبَاءِ الحِلَّةِ الفَيحَاءِ 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net