صفحة الكاتب : زعيم الخيرالله

خُلُودُ الثَّورَةِ الحُسَيْنِيَّةِ
زعيم الخيرالله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الخُلودُ نَزْعَةٌ فِطْرِيَّةٌ في أَعماقِ الانسانِ تَحُثُّهُ على البقاءِ والتَشَبُّثِ بالحياةِ ، ومواجهةِ الفناءِ وهذهِ النَّزعةُ وجدناها في الاساطير البابِلِيَّةِ التي تَحَدَثَ عنها "جِلجامش" في ملحمتهِ حينما رأى بِأُمِّ عينيهِ موتَ صديقهِ " انكيدو" ، الذي أَرَّقَهُ كَثيراً ؛ فبدأَ يبحث عن البقاءِ وسِرِّ الخُلودِ ، وبعد رحلةٍ مُضنِيَةٍ عثر "جِلجامش" على عشبةِ الخلود ، ولكن هذه العشبة سرقتها منهُ افعى ... بعدها توصلَ "جلجامش" الى ان الخلودَ من نصيب الالهة ، وماعداهم فالموتُ قدرٌ حتميٌّ بالنسبةِ لهم .
والمِصريونَ القُدامي الذينَ صَنّعُوا مادةَ التحنيطِ لحفظِ أجسادِ فراعنتهم من الانحلال والتفسخ ، انما كانوا يبحثون عن الخلودِ والبقاء. وقد اشارَ القُرآنُ الكريم الى بقاء جسدِ فرعون موسى " رمسيس الثاني " بقوله تعالى :
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).يونس: الاية: 92.
والهندوس تحدثوا عن فكرة الخلود عن طريق القول بتناسخ الارواح ، وهذه الفكرة موجودة عند البوذيين ومعظم ديانات الشرق. وفكرة تناسخ الارواح هي دورة الموت والحياة وانتقال الروح من جسد الى اخر ، والعقاب والثواب يتم في هذا العالم عن طريق هذه الدورات المتتالية التي تنتهي بما يعرف بالنرفانا عند البوذيين ، والاتحاد ببراهما عند الهندوس. امّا الديانات السماوية فتتحدث عن يوم آخر فيه الخلود .
القرآنُ الكريم يتحدث بأنَّ الشيطان اغوى آدمَ عليه السلام عن طريق اثارة مسألةِ الخلود في وعيه . يقول الله تعالى :
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ).طه: الاية: 120. ، وقوله تعالى:
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). الاعراف: الاية: 20.
ماهي طرقُ البَشَرِ الى الخُلودِ؟
----------------------------
الانسان قد يرى طرقاً متعددة توصلهُ الى البقاء والخُلود ، ولكنّ القرآنَ الكريمَ لايرى هذه الطرقُ موصلة للخلود بل يراها ظُنوناً وأوهاماً ومزاعمَ . بعض هذه الطرق "المال" وقد اشارَ القُرآنُ الكريمُ الى هذا الطريقِ واعتبرهُ حسباناً لاواقعيةَ له . يقول اللهُ تعالى :
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ). الهُمَزَة: الاية: 3. وقد يحسب الانسان الطريق الى الخلودِ هو امتلاك البساتين والزروع والحقول ، يقول الله تعالى :
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ). الكهف: الاية:35.
وقد يَظُنُّ الانسانُ أَنَّ الطريقَ الى الخُلُود بكثرةِ الأَموالِ والاولادِ :(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).سبأ: الاية: 35. وهكذا كان الحالُ مع قارون الذي ابطرتُهُ النعمةُ واغتر بماله :
(۞ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).القصص: الاية: 76.وهكذا كان الحالُ مع فرعون الذي كان يتصور الخلودَ بملك مصرَ والانهار التي تجري من تحته ، كما يصورُ القرآنُ ذلك :(وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). الزخرف: الاية: 51.، كلهم كان يتصور الخلودَ عن طريق متاع الحياة الدنيا الزائل .
الخلودُ الحسيني بَوابَتُهُ الموتُ
----------------------------
خُلودُ عاشوراء خُلُودٌ مختلِفٌ ، وبوابتُهُ مختلفةٌ .. لم يكن خُلوداً طريقُهُ المالُ ولاالضياعُ ولاالبساتينُ والزروعُ والعقارات والقصورُ الفارهة ، وانما دخلهُ الحسينُ عليه السلام من بوابَةٍ أُخرى يحسبها الناسُ فناءً وعدماً ، ألا وهي بوابَةُ الموت ، ولكن ايُّ موتٍ هذا الذي كانَ طريقاً للخلود الحُسَيْنِيَِ ؟ ليس كُلُّ موتٍ يكونُ طريقاً الى الخُلُودِ ، فَبَعضُ الموتِ يكونُ عاراً وشناراً على صاحبِهِ ، كالذين يموتون وهم يمارسون اعمالاً غيرَمُشَرِّفَةٍ كالذين يُقتلون وهم في عصاباتِ المافيا ، وتجارة المُخَدِّراتِ . هذا الموتُ لايُشّرِّفُ صاحبه ، ولايبعثُ الفخر في نفوس عائلة المقتول في هكذا مواقف ، بل يجلب لهم العار .
وبعض الموت يثير الشفقة كأغلبِ حوادثِ الطرق وحوادثِ السير، والذين يقتلون وهم في ريعانِ شبابهم .
وبعضُ الموتِ يبعث على الفخر كموت الابطال في سوح المعارك .
ويكفي مرورُ الزمنِ ، لنسيانِ هذه الحوادث .
امّا بوابه العبور الحسينيّة الى الخلود ، فهي الموت ُ المضمخ بالدم ، والمُعَطَّرُ بأَريجِ الشهادةِ . والذي اختارهُ الامامُ الحسينُ عليه السلام بارادتهُ . الشهادةُ كما يعرفها الشيخ الشهيد مرتضى المطهري بانها : ( الموتُ الواعي على طريقِ الهدف المقدس) .
المنطقُ الماديُّ الدنيويُّ ، لايفهمُ الشهادةَ الحُسَيْنِيّةَ ، فيصفها بالانتحار . كلُّ انواعِ الموتِ التي اشرتُ اليها ، الانتحار والموت الباعث على الشفقة ، والموت الجالب للعار ، كلها تشترك في صورة الموتِ الذي هو خروج الروح ونهاية الحياة . ولكن الفارِقَ نوعيٌّ بين صور الموت هذهِ ، المنتحر الذي انهى حياتهُ وازهق روحهُ ، هو هاربٌ من الحياة ، هاربٌ من مسؤولياتِ الحياة وتبعاتها . والذين يقتلون في عصابات المخدرات هم يبحثون عن متع الحياة ومتاعها الزائل ، والابرياء الذين يثيرون شفقتنا ، لم يخططوا لموتهم بل كانوا ضحايا في هذا الموت الذي يثير الاسى والحسرة والشفقة عليهم .
امّا الشهادة الحسينيّة فهي اختيارٌ واعٍ للموتِ ، عن قَصْدٍ وتصميمٍ ، فهو موتٌ فاتحٌ للعقولِ والارواحِ والقلوب .
حينما نتحدث عن الامام الحسين عليه السلام ، فهو الذي طارد الموت وامسكهُ حسب تعبير " عبدالرزاق عبدالواحد " :
وخُضْتَ وقد ضُفِرَ الموتُ ضَفْراً
فَما فيهِ للـرّوحِ مِن مـَخْرَمِ
وَما دارَ حَولَـكَ بَل أنتَ دُرتَ
على الموتِ في زَرَدٍ مُـحـكَمِ
من الرَّفْضِ ، والكبرياءِ العظيمةِ
حتى بَصُرتَ ، وحتى عـَمِـي
فَمَسَّـكَ من دونِ قَصدٍ فَمـات
وأبقاكَ نجمـاً من الأنـْجُـمِ !
وتحدث الجواهريُّ عن الحسين عليه السلام بأَنَّهُ يُسَيِّرُ ركبَ الخُلودِ :
وأنتَ تُسَيِّرُ رَكْبَ الخلودِ
ما تَسْتَجِدُّ لهُ يَتْبَعِ
ويقولُ الجواهريُّ أَيضاً:
وياواصلأ من نشيد الخلـود ====== ختام القصيدة بالمطلــــع
هناكَ فرقٌ بين خلودٍ ميّت وخلودٍ حيٍّ ، الاهراماتُ خالدةٌ ، والاثارٌ الخالدة التي تحكي حضاراتٍ كانت مزدهرة لم يبقَ منها الا هذه الآثار . هذا خلودٌ ولكنَّهُ خُلودٌ ميّتٌ جامدٌ لاحراكَ فيه ، ولاحرارةَ فيه ، ولكنَّ خلودَ الملحمةِ الحُسَيْنيَّةِ خلودٌ حيٌّ ، لم يُمِتْهُ الزمن ، مايزال الحدثُ ينبض بالحرارةِ والحياةِ وكَأنّهُ حدثَ الساعةَ .
ومن عوامل الخلود شخصيات الامام الحسين وشخصيات اهل بيتهِ واصحابهِ . هذه شخصياتٌ فريدةٌ لاتتكررُ بأعيانها .ومن عوامل الخلود البشاعة المتفردة في القتل والسبي ، ومن عوامل الخلود دور الاعلام الذي خطط له الامام الحسين عليه السلام بجلبه النسوة معه . كان الامامُ السَّجادُ عليه السلامُ والسيدة زينب وبنات الرسالة ، صوت الثورةِ الناطقُ بالحق ، والهادر بحملِ لواء الثورة .
الصدق والاخلاص لدى الامام الحسين عليه السلام من عوامل الخلود ، فهي ملحمةٌ خالصةٌ قصدَ بها وجهُ الله تعالى ، لم تشبها شائبةُ طمعِ بدنيا أَومنصبٍ أَو متاعٍ زائلٍ.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زعيم الخيرالله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/05



كتابة تعليق لموضوع : خُلُودُ الثَّورَةِ الحُسَيْنِيَّةِ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net