قديماً , كنتُ اترددُ عليه صباحَ مساء , وحين كنتُ أتأخرُ عنه يوماً يُرسل اليَّ ولده الذي في مثل عمري يطلبُ مني زيارته.
كان أولاده اصدقائي , ولكني تركتُ صداقة الاولاد وصادقتُ الوالد , رغم انَّه يكبرني نحو ثلاثين عاما, وكان السببُ في صداقتنا اننا كنَّا نجلسُ على مائدة الأدب, نتعاطى مُدامَ القوافي , ونخوض في بحور الشعر , ولانرتاح الاَّ ان نغرق فيها , وأحيانا يسرقنا الوقت فيأتي وقتُ الطعامَ فيلزمني بالغداء معه ولايدعني أذهب ابدا.
في ذاتِ يوم دعاني وقال لي :- إنّني اريدُ أن اطبَع ديوان شعري وقصائدي فما تقولُ في ذلك؟ على أن لاتُجاملَ ولاتُحابي.
فقلتُ له :- أما شعرُ القريض فعليك بكتمانه , إذ لايصلح قليله للنشر ولاكثيره للإذاعة, وأما الشعرُ الدَّارج فما اجدرك بنشره وأحراكَ بإذاعته.
فنظرَ إليَّ نظرة المُغضب التي فيها عتابٌ أشبه بالعقاب , وهزَّ يده كالفارس الذي يريد أن يطيح بالرقاب في سوح الضراب,ثم تركني في (البراني) لوحدي وجلس في الحديقة , وكنت أشاهده من شباك البراني المطلِّ على حديقته, وأنا بدوري قمت بعد دقائق من فهمي للأمر , وإفاقتي من دهشتي من ردَّةِ الفعل , وخرجتُ دون أن أُلقيَ تحيَّة الوداع!
مضت على ذلك أيام , وحبلُ الودِّ بيننا منقطع , وعروة الأخوَّة منفصمة , حتى أصلح بيننا سيّدٌ جليلٌ من السادة آل الخرسان , ومعه سيّدٌ آخر ,نسيتُ اسمَه , وكان ينتحلُ دورَ العباس عليه السلام في دائرة الكوفة في السبعينيات , وكان يطلبُ مني دائماً أن اقرأ له شيئاً من قصيدةٍ فائية كتبتها في الامام الحسين عليه السلام مطلعُها
(قف يافديتُكَ بالطفوفِ ***** وأطِلْ به ساعَ الوقوف).....
وكان السيدان المُصلِحانِ قد اشترطا عليَّ أن أكتب قصيدة مدحٍ في ديوان السيد الغاضب , وكان اسمه عباساً ,فكتبت فيه سينية مطلعها
(ياساقي الكاس مُر بي واسقني كاسي ***** سلافَ عينيك بين الورد والآسِ)
(لقد تركتَ الذي يهواك من ولهٍ **** في العشقِ يضربُ أخماساً بأسداسِ)
(أعدتَ للشعر ياعباسُ رونقه ***** قآعجب لشيعيِّ يهوى الشعر عبَّاسي).
ومعنى البيت الثالث يعتمد على ذكر مقدّمة , وهو أنَّ كثيراً من الدَّارسين للشعر والأدب العربيين يعتقدون أن الشعر العباسي كان من اجمل عهود الشعر العربي , وفي البيت الثالث تورية,إذ المتبادر من لفظ (عباسي) عند السامِعينِ الاثنين المصلحين هو الشعر المنسوب الى (السيد المذكور) والحقيقة أنني أردتُ الشعر في العهد العباسي.
ولكن السيد,عفى الله عنه, هاج وماج,وارعد وازبد,وظنني أطعنُ بنسبه إذ نسبته لبني العباس وهو من بني فاطمة,فأخذ يحدِّثُ السيدين معرِّضاً بي وهو يقول: سأذهبُ غداً لأمي وأسالُها هل نامت مع أحدٍ غير أبي؟
وماصلحت الامورُ بيننا الاِّ بشقٍ الانفس,وشرح البيت سبعين مرة لكي يفهم,وقراءته على مسامعه سبعين اخرى حتى يقتنع.
وكان عاقبة الصلح ان أولم على بنِّياتٍ أربع كبيرات,تناثرت المكسرات بين أحشائها,وأقراصٍ من الخبز حارة,كأنها في بياض طحينها وقد فاح منها لفح التنور,بدرٌ أزهرٌ يزدهي بالنور ,وكؤوسٍ من اللبن طيبة يتراقص الثلج في رغوتها,
ولكنني بيَّتُ أمراً,فقد أخذتُ قصيدة المدح بحجة إصلاحها,ثم مع أخر لقمة خبزٍ مغمَّسة ٍبالسمك,ورشفة شايٍّ مطعمةٍ بالهيل,كان ذلك آخرَ مجلسٍ جمعني مع تلك الثلة,لعلمي أن أوار اللوم مازال مشتعلاً في موقد القلوب,وجمر العتاب مابرح مستعراً في خلجات النفوس.
ومرت الايام,والمصاعب تاتي بالمتاعب,والاحقاد تولِّد الابتعاد,وكان يبعث عليَّ فأتحجج بالاشغال, ويرسلُ لي فأزيد في المطال,حتى ساء الحال,وتغيرت القلوب والانفس.
وغادرت الكوفة ,مهوى النفس وموطن الروح,في بيتنا الذي رأيتُ فيه اكتمال بدرِ قلمي على افق البيان,الى دارٍ اخرى في حيِّ القدس خلف الكراج الجنوبي,وشغلتني الدنيا عن الدنيا,وشُغلت بالناس عن الناس,وذات يومٍ مررت على شارع المقبرة قبل ان تُسيَّج خلف كراج الاحياء,فرايت صورته معلَّقةً على احد القبور,كتب عليها (شاعرُ اهل البيت فلان بن فلان)..
فوقفت على قبره أقرأ الفاتحة,وصرت كلما مررت على القبر اقف هنيهة,استذكر موقفاً مفرحاً هنا فأترحم عليه,واخر مؤلماً هناك فاستغفر له,وانا أقرا له ماتيسر من القران,واقول له:ياسيد,لقد كنت تبعث عليَّ فلاآتيك,وانا اليوم اتيك دون ان تبعث عليَّ!
ثم أزفر زفرةً تكاد تخرج بها روحي واقول:- كتب علينا ان لانلتقي ,لايوم كنت ترسل علي,ولايوم آتي اليك بلا إرسال!
رحمك الله ياعم,لقد قضيتُ معك سبعاً من السنين,مارأيتُ منك الاَّ خيرا,وكنت نعم الجار لجاره,والصديق لصديقه.
ايهٍ منك يادنيا,كم من ذكرياتٍ عزيزة طويتِ بيسار الآمك,وكم من عمرِ غالِ أخذتِ بيمين احزانك؟ا
أحياناً اشتهي ان اذهب الى المقبرة واجلسُ مع الاموات,فكثيرٌ منهم اعزّ من كثيرٍ من الاحياء,يكفي ان فيهم ابي.