لم تكن الأرض، في أي يوم، كما في عصرنا، مسرحا ً للهجرات! فإذا كان البعض يرى ان الأرض، مثل الهواء، ومثل الماء، ومثل الفضاءات، غير قابلة للاحتكار، فالبعض الآخر، كما في الأزمنة القديمة، يرى أنها ملكية يتحكم بها الأقوى، أو الذي لا يرد له طلبا ً!
فالناس يهاجرون، بحثا ً عن الملاذ، والحماية، ابتداء ً بالبحث عن الغذاء، إلى توفر الحرية، ومن البحث عن العمل، إلى توفر حق التمتع بالوجود، والموجودات، ومن توفر الأمن إلى توفر السلام الروحي، والجمالي...الخ
إنها الأسباب الكامنة في التعرف على الهجرات، أو الانخلاع، ابتداء ً مع الغزو، ونشر الأفكار، إلى التجارة. فالأرض، مهما ضاقت، تبقى تمتلك اتساعها! فالجسور بين الناس، مكثت ممتدة، والأسوار، مهما ارتفعت، فان إرادة التعارف، والمؤانسة، والمودة، تبقى أقوى من حتميات التصادم، والكراهية، والعداء! ففي المشترك البشري، بين الناس، مهما تنوعت ألوانهم، وثقافاتهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم ...الخ تتوحد عند نهايات ترجعنا إلى الأصل: بذرة الوجود الأولى: التعارف، والسكن المشترك، والعبور إلى المستقبل ! في بلدنا، الذي لم يشهد هجرات، بمختلف دوافعها، كما شهدها، بعد عام 1958، غافلين هجرة اليهود العراقيين طبعا ً، الأقدم من هذا التاريخ...، أقول، لم يشهد وطننا هجرات إلى مختلف بلدان العالم، حدثت، في الغالب، للأسباب ذاتها بحثا ً عن الأمان، والعمل، والحرية ! ومن يعيد قراءة مسار المهاجرين العراقيين، من المشتغلين في الثقافة، والفنون، ستعرف عليها عبر عشرات المواقع الالكترونية التي يمارسون عبرها حق التعبير عن أفكارهم، ومصائرهم، في الشعر، أو في الرواية، أو في المسرح، أو الفنون، أو في أي مجال آخر من مجالات الإبداع.
على ان كثيرا ً من المشتغلين في الثقافة ـ والفنون، انطلاقا ً من مفهوم ان الهجرة، لا تتحدد بالمساحات، بل بالحفر عميقا ً في المكان ذاته الذي سيتحول إلى منفى، له خصائصه، وسماته المغايرة، أو المشتركة، مع المنافي النائية!
قراءة ما ينشر عبر عشرات أو مئات المواقع، تتداخل فيها إسهامات المشتغلين في الثقافة، والكتابة، كي تتجاوز ـ وتلتقي ـ عند أكثر الإشكاليات ديمومة: التطلع إلى عالم لا تسرق فيه أحلام الإنسان، ولا تنتهك فيه حقوقه، ولا تنتزع فيه حريته منه!
لكن الأكثر إثارة، في هذا المشترك، ان هذه المواقع، لا تعلن عن حضور المبدع العراقي، إن كان بعيدا ً عن ارض الأسلاف، أو في المنافي، ولا تعلن عن دوره، وموقعه، وأثره، في عالم تحول إلى قرية صغيرة، والى مساحة بلا ممنوعات، وأسوار، ومحرمات..الخ بل ان نصدم برحيل احد هذه العلامات، بهدوء، في مستشفى ما، أو وسط عائلة لا تتكلم اللغة العربية، أو في زقاق يجهل سكانه هوية الراحل!
انه المشترك الآخر...، لا في الحياة، بل في الموت!
فأي منفى لا ذوا به للخلاص، وأي منفى لاذ بهم، بحثا ً عن قليل من الهواء، وقليل من المودة ! |