• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ليس للمسلمين إيديولوجيا متجانسة ومؤهِّلة للديمقراطية: الحل .
                          • الكاتب : محمد الحمّار .

ليس للمسلمين إيديولوجيا متجانسة ومؤهِّلة للديمقراطية: الحل

قبل بضعة أشهر عن أوّل انتخابات حُرة وديمقراطية مُزمعٌ تنظيمها في تونس، ليس من الصعب أن يلاحظ المرء أنّ القاعدة الفكرية للناخبين الافتراضيين التونسيين ليست متحدة. والحال أن الاتحاد الفكري شرط ضروري لنجاح المسار الديمقراطي بدءًا بتنظيم الأحزاب السياسية ومرورا بعملية الاقتراع وانتهاءً إلى إعداد المشاريع والبرامج ثمّ الشروع في إنجازها بفضل التفاف غالبية القوى الحية والفاعلة في المجتمع حولها.
والقول إنّ القاعدة غير موحّدة ليس استبعادا للتعددية الفكرية بل هو معاينة لغياب الخيط الرابط بين كافة الحساسيات والأطياف السياسية،.وهذا الخيط يُعتبر أدنى ما يمكن أن يتوفّر لدى المجتمع السياسي (نخبا وناخبين) لكي نضمن الدخول الحقيقي في الحياة الديمقراطية بما تجسده من تعددية فكرية وسياسية.
قد يُفهم من هذا الكلام أنّ الديمقراطية ليست هي التي ستُوحّد الفكر في تونس (وفي أي بلد عربي إسلامي آخر؛ وهذا ليس تعميما وإنما واقعا). وهو الفهم الأرجح للظنّ جرّاء معاينة فشل التنوير في المجتمع العربي الإسلامي عموما. فوحدة الفكر القبْلي للديمقراطية شرط سابق للديمقراطية الأداتية (تنظيم أحزاب؛ حملة انتخابية؛ انتخابات؛ تكوين مجلس النواب؛ تشريع وتنفيذ وقضاء).
لنرَ الآن أين يكمن الشقاق الفكري. إنه واضح وجلي إذ لا يخلو حوار أو نقاش منه: الاستقطاب الثنائي بين الدين واللائيكية/العلمانية. إن كل طرف يكبح جماح الطرف الآخر عوضا أن يأخذ منه الجيّد والسمين ويترك جانبا الرديء والغث فيه. وطالما أنّ  كِلا الطرفين متماديين في هذا الصنيع فالذي يغيب عنهما في الأثناء هو مجابهة التحديات المشتركة من فقرٍ وقابلية للإذعان للهيمنة الرأسمالية العالمية وسوء توزيع للثروة الأهلية، ومن عقلية استبدادية، وممارسة المظالم الإنسانية والاجتماعية وغيرها إزاء بعضنا البعض.
ويذهب الملاحظ إلى أبعد من ذلك ليقول إنّ تشخيص المشكلات وتحديد الأولويات وضبط الحاجيات لن يتمّ في ظل الشقاق الفكري الموصوف.
فما الذي يريده العلماني لمّا يعتبر أنّ الدين الإسلامي مسألة شخصية من دون معرفة ولا دراية بأنّ المعتقد فعلا مسألة الشخصية وبأنّ ممارسة المناسك التابعة للمعتقد حقا مسألة شخصية وبأنّ، في المقابل، المعاملات (المالية والاقتصادية والمدرسية والجامعية وغيرها) والأخلاق الفردية والمجتمعية ليست مسألة شخصية ولن تكون كذلك.
لنسأل علمانيا: أنت استهللت حقبة التعبير الحر؛ فهل لك أن تعبّر عمّا هو شخصي لديك أم أنّ الشخصي لديك ليست له آثارا، طيبة أو قبيحة، على سلوكك الاجتماعي؟ هل أنت مُعبّر عن ذلك أم أنت رافض للتعبير؟ وإن رفضت التعبير عن آثار الشيء الشخصي ألا تعتقد أنك تُناهض حريتك أنت بالذات للتعبير، ناهيك حرية الآخرين؟
ولنسألْ إسلاميا: ها أنك استقبلت حقبة حرية التعبير، فهل لك أن تكتفي بالتعبير عن وجودك الديني الذي يخصك أنت وتكفّ عن محاولة افتكاك فرصة تعبير المسلم الآخر عن وجوده هو دون سواه؟ أم أنك لا تقدر على التبليغ حتى عن نفسك، وفي هذه الحالة مالَكَ تعكف على تكريس محاولة النطق باسم الآخرين؟ فهل يكفي أن تتكلم بالإسلام وعن الإسلام لكي يكون كلامك، أي سلوككَ، إسلاما؟ فهل أنت قادر حقا على التعبير عن ذاتِك المتدينة حتى تتملك التعبير عن المجتمع كله؟
لتلافي هذا النوع من الصراع العقيم ومن أجل بناء الأرضية الفكرية المتحدة يقترح العلم على من يسمع من مجتمع تونس أن نغيّر معًا أسلوب الدعوة. والدعوة المطلوبة بحسب الشروط المذكورة ليست دعوة للدين بل دعوة لحسن التعامل مع الدين؛ دعوة لتحويل التعبير عن القلق من المحور المرَضي"كِلانا تجاه الآخر" إلى محورٍ أكثر واقعية "كلنا تجاه المشكلات والتحديات المشتركة".
وفي هذا السياق يقدم لنا العلم إجابة تتمثل في النقاط التالية:
1. ليست آيات الله وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في متناول كل واحد لتفسيرها والاستدلال بها.
2. إنّ حق المسلم في حفظ الأثر الديني من النص المقدس وتدبّره لا يسمح له بالضلوع المباشر في تفسيره.
3. إنّ المقاربة التي اسمها "الاستقراء" المعمول بها في كثير من العلوم قد تفيد المواطن التونسي (والعربي الإسلامي عموما) الذي يريد أن يعبّر عن وجوده الديني من خلال التعبير عن وجوده الشامل.
4. والاستقراء هو عكس الاستنباط (استنباط الحكم من النص)؛ وهو اكتشاف السنن والنواميس والقوانين والأحكام التي تنطوي عليها منظومة قانونية؛ ويتمّ ذلك من خلال التجربة الميدانية.
5. إنّ علم اللغويات من العلوم التي استُخدم فيها الاستقراء، ومركز الاستقراء هو لا شيء غير مركز اللغة: النحو. لذلك ترى المدرّس المعاصر يساعد المتعلم على اكتشاف القواعد النحوية بنفسه، طبعا مع إفادته إياه بمعلومات استنباطية تقليدية، إن لزم الأمر، لتكميل الجهد الاستقرائي للمتعلم ولتثبيت المنفعة التعليمية.
6. والذي يجري به العمل في اللغة قد يسهُل العمل به في التديّن (لا في الدين)، أي في كيفية التعامل مع الدين وفي كيفية تجريب الحياة بواسطة الأداء الديني. وذلك ممكن حقا لأنّ في علم اللغويات ما هو معروف عن "الكلام" أنه "عمل/ سلوك" مثلما ما نعرفه من علوم الدين عن الإسلام بأنه "عمل/سلوك".
7. في ضوء ذلك يتشكل المبدأ العلمي التجريبي الوجودي الذي يهمنا في عملية التعبير عن الوجود الديني، مهما كانت نسبة التعبير ضعيفة، ومهما كانت قوية، لدي المتدين؛ والمبدأ هو "الكلام إسلام"؛ طالما أنّ الإسلام عمل من جهة وأنّ الكلام عمل من جهة أخرى.
8. إذا كان ذلك كذلك، سيكون الاستدلال بآيات القرآن الكريم وبأحاديث الرسول تتويجا لمرحلتين سابقتين (مثلما يكون الاستدلال بالقاعدة النحوية تتويجا للأداء اللغوي)،لا مقدمة لهما كما يُلاحَظ في مجتمع اللخبطة التديُّنية اليوم:
أ. مرحلة الإيمان بالنص الديني قرآنا وحديثا، وبأنّ المؤمن لا يبحث عن حجة لكي يؤمن بواسطتها بعقيدة التوحيد وذلك من خلال اكتشافه لقوانين الكون والإنسان، بل يبحث عن مسالك لتجسيد إيمانه بعقيدة التوحيد في مجالات الإنسان وفي مجالات الطبيعة والكون.
ب. ومن السبل المكرسة للتوحيد تطبيقُ المعنى الديني في "الكلام/الفكر" وما يتسقُ معهما  من "عمل/ سلوك/واقع".
9. لمّا يُدمَج ما جاء في النقطة 5 مع ما جاء في النقاط 6 و 7 و 8 فسوف يكون تجسيد مبدأ "الكلام عمل" تقوية لتجسيد مبدأ "الإسلام عمل" لمن أراد التقوية وجمع المبدأين في "الكلام إسلام". ومن جهة أخرى سيكون تجسيد مبدأ "الإسلام عمل" تقوية لتجسيد مبدأ "الكلام عمل" لمن أراد التقوية وجمع المبدأين في "الكلام إسلام".
10. حينئذ لن تقتصر الفائدة التي ستحصل من تجسيد مبدأ "الكلام إسلام" على التديّن والتجربة الدينية والفكر الديني الإنساني فحسب، وإنما تفتح آفاقا متناهية الأطراف أيضا في مجال اللغات والتعريب والعربية وإحياء هذه "الأم" المُحالة على المعاش الوقتي.
في النهاية إنّ أملَ كل امرئ يحبّ الخير لبلاده ولكافة الأمة في أن يدرك الشباب، شباب تونس الثورة، وشباب العرب والمسلمين، سواء أولئك المتحمسين للحزب الديني، أو غيرهم، ما يلي ثم استبطانه والعمل به: إنّ تبليغ  "فكر الإيمان" (أ) من جهة في منظومة "كلام/فكر، ومنه عمل/سلوك/واقع"، وكذلك تبليغ "مادة الفكر الخالي من الإيمان" (ب) من جهة أخرى في المنظومة ذاتها "كلام/فكر، ومنه عمل/سلوك/واقع" (بمقتضى متطلبات "القدرة التواصلية" المتكافئة في "أ" وفي "ب") أضحى أمرا ممكنا.
إذن ليس من باب الإنصاف التاريخي أن يزعم أحدٌ، لا المتحمس للدين الحنيف ولا المناهض لتسييس الدين، أنّ بإمكانه أن يجزم أو حتى أن يفكر في أننا الآن، إنْ في مرحلة تطبيق الإسلام أم، في المقابل، في مرحلة تحرير الفكر من التفكير الديني.
 فقط نحن في مرحلة تستوجب أن يتعلم الشباب كيفية التعامل مع المعطى الإسلامي. والبقية مثل نمط الاقتصاد وشاكلة المجتمع وصفات التعليم وغيرها التي سيُثيرها التحول الديمقراطي في المجتمع المسلم، من مشمولات الغيب لكن أيضا من مشمولات الفكر العملي وثمار التجربة الميدانية العلمية. وستتضح معالم ذلك كله ورموزه عبر قنوات التعبير التربوية والتواصلية التي ستوفرها الديمقراطية.
 تلك وسيلة من وسائل السيطرة على الحداثة حتى لا تُكرر صنيعها إزاء الذات والمجتمع التونسيَين، وحتى لا تفعل لدى الأشقاء ما فعلته بنا. مَا الديمقراطية إن لم تكن صدّا للتكرار وإصرارا على الابتكار؟
محمد الحمّار
"الاجتهاد الثالث"
 
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=3174
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 02 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13