ما زالت الأنباء حتى الآن متضاربة بخصوص عدد ضحايا كل من الطرفين، والمناطق التي يسيطر عليها كل منهما؛ وقد اعترفت تركيا بسقوط ما يقارب المئة جندي لها، وقال "أردوغان" أن عدد ضحايا حزب العمال الكردستاني فاق الخمسمائة. وهنا تستوقفنا نقطتان: أولهما أن احصائية الدولة لقتلاها لا تشمل تنظيم "حماة القرى" المسلح، والمشكل من بعض العشائر والعائلات الكردية الموالية لها؛ وثانيهما هو ما قاله بعض من الكتاب الأتراك، وعلى رأسهم الجنرال "توركر أرتورك" الذي استقال احتجاجاً على سياسة حزب العدالة الحاكم، من أن انفجار مستودع الذخيرة في "أفيون"، غرب البلاد، مشبوه، وأن الجنود الذين قيل أنهم سقطوا فيه هم ضحايا استقدمت جثثهم من منطقة المواجهات مع حزب العمال، في جنوب شرق البلاد، ورتبت بحيث يظهر أنهم قتلوا نتيجة الانفجار.
وكذلك تضاربت الأنباء بخصوص المنطقة التي يسيطر عليها كل من الطرفين؛ تقول وسائل إعلام حزب العمال أن سيطرته امتدت إلى مناطق واسعة لم تقتصر على بلدة "شمدينلي". وتنفي وسائل إعلام السلطة الأردوغانية ذلك. ولا نعلم هل سيقبل "أردوغان" التحدي، ويعيد التقاط الصور في نفس المنطقة ليثبت أنه يسود على البلاد بأكملها. شخصياً أعتقد أن ذلك مستبعد بقرينة عدم قيام أي من وسائل الإعلام الموالية له باجراء أي تحقيق أو بث مباشر من المنطقة. مما يؤكد أن سيطرة حزب العمال حقيقة واقعة، وأن الجدال الحقيقي هو حول حجم المنطقة العازلة وليس وجودها أو عدم وجودها.
ورغم كل التطورات المتسارعة فإن حكومة العدالة والتنمية تصر على أن المشكلة أمنية وليست سياسية، مركزةً على الحل الأمني. وقد قال "أردوغان": "ليست هناك قضية كردية بل توجد مشكلة بشأن حزب العمال". وهذه النظرة هي إحدى اثباتات النظرية التي لا ترى في حزب العدالة والتنمية حزباً إسلامياً بقدر ما ترى فيه حزباً يمينياً تقليدياً. كما هاجم نواب حزب السلام والديمقراطية، الذراع السياسية لحزب العمال، ولديه تسعة أعضاء في مجلس الشعب. وحتى أنه تحدث عن إزالة حصاناتهم الدبلوماسية تمهيداً لإغلاق الحزب، وزج قياداته في السجون. ولمح لإعلان حالة الطوارئ في بعض الأماكن.
صحيفة "زمان" الموالية كان مانشيتها هو "الانتقال من الدفاع إلى الهجوم" وهو اعتراف ضمني منها بأن الجيش التركي كان في وضع المدافع. وأن المشكلة ليست بضعة ارهابيين كما تزعم. وتحدثت عن ثمانية فرق عسكرية، وعدد ضخم من الطائرات العسكرية، التي ستقصف معسكر حزب العمال الكردستاني في جبال "قنديل" شمال العراق. وأضافت أن رئيس هيئة الأركان سيكون موجوداً بنفسه لقيادة العمليات. وقد زار "أوزل" الولايات المتحدة الأمريكية طالباً من الأمريكيين تعزيز التعاون الاستخباراتي بحيث يصبح تبادل المعلومات لحظياً، وعلى مدة الأربعة والعشرين ساعة. ولنا أن نفترض أنه يقدم توضيحات بخصوص العملية المنوي القيام بها.
ولربما من المفيد تذكر حادثة اطلاق الطائرات الحربية التركية النار، مطلع العام الماضي، على أربعة وثلاثين صبياً وشاباً مهرباً، عندما أيدت وزارة الدفاع الأمريكية ضمناً خبر صحيفة "وول ستريت جورنال" حول تزويد أمريكا للأتراك بالمعلومات الاستخباراتية التي تسببت بالمجزرة. وظهر أن هناك طائرات تجسس أمريكية موجودة فوق المنطقة بشكل دائم وتزود الطرف التركي بالمعلومات مهمة.
لقد استطاع حزب العمال الكردستاني أن يتجاوز فترة قاسية عليه، عندما تمكن "أردوغان" من شبك علاقات متشعبة مع الأمريكيين والاسرائيليين من جهة، ومع إيران وسورية من جهة أخرى. وحتى أن إيران قامت بقصف معسكر "قنديل" بالمدفعية عام 2011. وأياً كانت الانتقادات التي من الممكن توجيهها لحزب العمال فإننا لا يمكن أن ننكر أنه لم يتورط بعلاقات مشبوهة مع الكيان الصهيوني رغم ما في هذه العلاقة من مغريات كان بامكانها أن تخلصه من المأزق الذي كان فيه آنذاك. وهو اليوم إذ يعود أقوى مما كان عليه فإنه يعلن فشل خطة "أردوغان" للقضاء العسكري المبرم عليه.
الدخول في طور "الحرب الشعبية الثورية":
كانت خطة "أردوغان" تقوم بشكل أساسي على مزاوجة تكتيكين هما: التكتيك السيريلانكي في مواجهة حركة التاميل، حيث عمدت "سيريلانكا" إلى استخدام أسلوب الاغتيالات وتصفية قيادات الحركة. والتكتيك الثاني هو الأسلوب الأمريكي في أفغانستان، وذلك من حيث الاغتيالات والقصف الصاروخي الموجه وأسلوب الاستخدام الغزير لطائرات التجسس والتقنيات الاستخباراتية المتطورة التي تساهم في تعيين الأهداف.
أما حزب العمال الكردستاني فقد استوعب الضربات الأولى الموجعة في كثير من المناطق، كـ"بينغول" و"جودي"، واضطر لتقديم العديد من القتلى، قبل أن يرد بأسلوب مكثف، وينتقل إلى مرحلة السيطرة التامة على بعض الأراضي. وطور أسلوباً زاوج فيه تكتيك "حرب العصابات" لـ"تشي غيفارا" مع تكتيك "الحرب الثورية" لـ"ماو تسي تونغ" التي تقوم على قضم المناطق التي يسيطر عليها العدو، وامتلاكها قطعة قطعة. وفي مقابلة لرئيس الهيئة التنفيذية "مراد قره يلان" دعا لعدم الانجرار وراء تقديرات حجم المساحة التي يسيطر عليها كل من الطرفين، مضيفاً أن «هذه حرب وإذا رأينا أن الأمر مكلف من الناحية العسكرية فقد ننسحب من منطقة ما» مشبهاً الحرب بالتجارة، ويمضي شارحاً: «في حروب العصابات يطبق بشكل عام أسلوب الكر والفر، ولكن بعد أن تبلغ مستوىً معيناً تطبق أسلوب توسيع مناطق السيطرة. و"الكريلا" (مصطلح يطلق على مقاتلي الكردستاني لتمييزهم عن "البشمركة" البارازانيين) استطاعت اليوم أن تنشأ مناطق سيطرة وحركة لها في بعض مناطق "زاغروس"، "بوتان"، "درسيم"، ونحن نسميها "مناطق الكريلا". طبعاً هذا لن يكون في كل مكان ولكن في أغلب الأمكنة... وفي بعض الأماكن ستكون هناك نصف حركة وليس حركة كاملة» ويكمل: «"الكريلا" ستدعم سيطرتها في العديد من مناطق كردستان خطوة خطوة؛ وستزيد مستوى التصعيد في مناطق أخرى»
ويضيف: «هناك مناطق لا يدخلها الجيش التركي ولن يدخلها، ولا يستطيع دخولها».
ويطلق "قره يلان" على هذه المرحلة الجديدة اسم "الحرب الشعبية الثورية"
عصيان مدني في المناطق الكردية:
يدعو "قره يلان" الكتلة الشعبية المساندة لحزبه إلى لعب دور في هذه المرحلة الجديدة؛ عصيان مدني يقوم به الأكراد لناحية مقاطعة التعليم باللغة التركية لالزام المدارس التعليم بالكردية، ومقاطعة دوائر الدولة واجبارها على استخدام اللغة الكردية، ومقاطعة المحاكم إلا في الحالات الاضطرارية، والتي دعا فيها الموقوفين إلى الدفاع عن أنفسهم بمرافعات بالكردية. وكذلك رفض دفع الرسوم والضرائب.
لقد تمكن "عبد الله أوجلان" وهو في السجن من إدامة الخيط غير المرئي الذي يوصله مع أنصاره، ورغم عزله عن العالم الخارجي فإن المقاومة التي أبداها لظروف السجن، ومقاومته للضغوط التي حاولت اجباره على تقديم تنازل ما لصالح حكومة "أردوغان" باءت بالفشل، وأحس أنصاره بقلبهم يدق في جزيرة "إمرالي" التي يوجد فيها سجنه، ورأوا في مقاومته بذرة لمقاومتهم هم. وهكذا استطاع، في ظل منعه من التواصل معهم، أن يوصل لهم رسائل ضمنية فهمها كل منهم بطريقته، ومؤداها الاستمرار في المقاومة، ورفع وتيرتها. وإن الحراك المتعاظم اليوم رغم الانكسارات القريبة العهد يحمل بذرة مقاومة "أوجلان" لظروف السجن.
لسخرية القدر فإن الجنرال "باشبوغ" الذي كان إلى جانب "أردوغان" في صورة عام 2010 هو رهن الاعتقال حالياً بتهمة المشاركة في مؤامرة للانقلاب على الحكومة، ولعب دور التحريض الإعلامي عليها عبر مخدم يطلق أربعين موقعاً معارضاً لها. وللمفارقة فإن "باشبوغ" هو من أغلق المخدم أيام خدمته، ولكنه يحاسب اليوم بسببه... إذاً جيش يزج بقادته وضباطه بأدلة واهية بالسجون كيف سيقاتل لصالح حكومة لن تلبث أن تخونه وتعتقله؟
|