يوم عيد الغدير ، اليوم الذي يفهم من كلام أمير المؤمنين عليه السلام أنه ليس كمثله يوم ، ولا كحقه حقٌّ مضيَّع ! فلا بد من توضيح أمرين:
ذلك اليوم ما هو ؟
والحق المضيع فيه ماهو ؟ وكلاهما بحثان عميقان !
إن أمير المؤمنين عليه السلام شمس مشرقة ، يستفيد منها قلب كل إنسان بقدر ظرفه وسعته ، وما كتبه المؤلفون عنه بدون استثناء ، إنما هو تعريف للشعاع الذي استفاده المؤلف من شمسه، أما نفس الشمس فلم يصل اليها أحد ، ولن يصل ، إلا من كان في مرتبته ، أو أعلى منه !
أما نحن فغاية ما نعرف منه أننا لانعرفه ، وهو أمر مهم ، أن يعرف الإنسان حدود ما يمكن أن تصل اليه معرفته ، ويعترف بذلك.
عندما تقرأ كلام الإمام علي الهادي عليه السلام في زيارة الغدير التي أنشأها ، تعرف ما هي القضية ، وما هي تلك الشخصية!
إن فهم تلك الزيارة بدون مبالغة أعلى من طاقات كل الحكماء والفقهاء !
واليوم نعرض بعض فقرات هذه الزيارة ، وهي فقرات من بحر محيط، تحتاج الى علم وفكر عميقين ، يتأملان فيها عمراً كاملاً !
قال عليه السلام :
(«صلوات الله عليك غاديةً ورائحة، وعاكفةً وذاهبة ، فما يحيط المادح وصفك، ولا يحبط الطاعن فضلك. أنت أحسن الخلق عبادة، وأخلصهم زهادة، وأذبُّهم عن الدين . أقمت حدود الله بجهدك، وفللت عساكر المارقين بسيفك ، تخمد لهب الحروب ببنانك ، وتهتك ستور الشبه ببيانك ، وتكشف لبس الباطل عن صريح الحق ، لاتأخذك في الله لومة لائم »). (1)
إن شخصيةً كأمير المؤمنين عليه السلام ، ينبغي أن تعرفها شخصية مثل الإمام الهادي عليه السلام ! أما نحن جميعاً من الصدر الى الذيل ، فيجب أن نكمَّ أفواهنا ، ونتأمل فيما قاله الذين يستحقون أن يكونوا مداحين لأمير المؤمنين عليه السلام !
إن كل جملة من هذا النص المعصوم ، تحتاج الى ساعات من الحديث ، ونكتفي هذا اليوم بواحدة منها !
إن الفرق بين كلام المعصوم وغيره أن كلام المعصوم يغلب الحقيقة والواقع! فغير المعصوم مهما كان مستوى فكره وعلمه ، فألفاظه تغلب معانيها ، لأنه ليس (محيطاً) بالواقع! وهي مسألة مهمة ينبغي لأهل الدقة أن يتأملوا فيها ! وكلما كان مستوى فكر المتكلم أعلى ، وكان إدراك عقله أعمق، كان التناسب بين الألفاظ والمعاني أكثر.
فالمعادلة هنا: أن مستوى الفكر كلما نزل كلما كان التطابق والتناسب والإنسجام أقل ، وكلما ارتفع كان أكثر .
لكن في كل المستويات لايمكن أن يكون كلام غير المعصوم أقوى من الواقع ، بل الواقع دائماً أقوى منه لأن غلبة الكلام على الواقع تحتاج الى إحاطة صاحبه الكاملة بالواقع ، وهي صفة خاصة بالمعصوم، فهو وحده هو الذي يملك الإحاطة بالحقيقة، ويستطيع أن يفصل لها ثوب الألفاظ المناسب، ويلبسها إياه !
إن الشاهد على الخلق ، الذي وصل الى عمق الوجود ، هو الذي يستطيع بيان الواقع كما هو ، والحقيقة كما هي !
وإنسان كهذا عندما يقف يوم الغدير على قبر صاحب الغدير عليه السلام يستطيع أن يعبر عن شخصيته ومقامه عليه السلام
لأن دائرة الخلق التي يحيط بها تشمل كل ما عدا الخالق سبحانه ، فهو بهذه البصيرة وهذه الإحاطة يتكلم !
هذا هو نوع كلام الإمام الهادي عليه السلام ! وهذه الجملة الواحدة التي قالها عن أمير المؤمنين عليه السلام ، تكفي لتشغل فكر أحكم الحكماء وأفقه الفقهاء ، سنين وليس ساعات !
(فما يحيط المادح وصفك) ! فما هو ذلك الموجود الذي لايستطيع مادح من دائرة الخلق على الإطلاق ، كائناً من كان ، أن يحيط بوصفه!
وما هو وصف علي عليه السلام ؟ ما قدره كماً ، وما حده كيفاً ؟ بحيث أن أحداً بدون استثناء لايستطيع أن يحيط به ويستوعبه؟!
ومن هو هذا الموجود ، وماذا أعطاه الله تعالى ، حتى أن الإمام المعصوم يقف مقابل قبره ويقول: فما يحيط المادح وصفك؟!
هذا برهان ما قلته في مطلع حديثي من أن ما كتبه المؤلفون عنه بدون استثناء ، إنما هو تعريف للشعاع الذي استفاده أحدهم من شمسه عليه السلام ووصل اليه من نافذة قلبه وعقله ، أما نفس الشمس فهي أعلى وأرفع من أن يصل اليها أحد ، إلا من كان في مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام وأعلى منه !
ثم يستدل الإمام الهادي عليه السلام ، وكلام الإمام إمام الكلام ، بعدة أدلة على ذلك أولها: أنت أحسن الخلق عبادة !
ولابد أن نعرف ماهي العبادة ، فالسر كله هنا فقد سمعنا بعبادة الله تعالى ، لكن هل فهمنا معناها؟!
إن مفهوم العبادة من المفاهيم ذات التعلق ، أي التي لايمكن فهمها إلا بفهم المتعلق وطرف التعلق ، ومن الواضح لدى أهل النظر أن مفهوم الإضافة ذاتها لايمكن فهمه بدون المضاف والمضاف اليه (﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ﴾) فما هي العبادة ، وما هو العابد ، وما هو المعبود ؟
لابد لفهم العبادة أن نعرف المعبود الذي صفته أن: («كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه، فهو مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم، مردودٌ إليكم» ) (البحار:66ص292) ، لابد نعرف الإنسان بصفاته بالفعل والقوة ، لكي نفهم قوله تعالى: ( ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾) . (سورة الذريات: 56)
والخلاصة أن هذا العالم تم خلقه، وأنشئت شجرته العظيمة المترامية المذهلة ، من أجل ثمرة واحدة ، هي العبادة !
فلابد أن ننظر الى هذه القوة التي خلقها الله في مخلوقاته لمعرفته وعبادته، لنرى في أي مخلوق بلغت فعليتها، ونرى هذا الإستعداد في المخلوقات بأي شكل تم ظهوره و بأي وجود تحقق ؟
إن العبادة عبادتان: عبادة بالتسخير، وعبادة بالإختيار ، وفي كل منهما بحث.. والعبادة بالإختيار تكون من المخلوقات الذين وهب الله لهم عقلاً ، سواء من عالم الملك أو الملكوت: «من ملائكة أسكنتهم سمواتك ورفعتهم عن أرضك ، هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك. لم يسكنوا الأصلاب ، ولم يُضَمَّنوا الأرحام ، ولم يخلقوا من ماء مهين ، ولم يشعبهم ريب المنون . وإنهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم ولزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق طاعتك.سبحانك خالقاً ومعبوداً بحسن بلائك عند خلقك»)(نهج البلاغة:1/210) (2)
فهؤلاء الملائكة الأبرار مستغرقون في عبادة الله تعالى، وأي عبادة؟!
(«منهم سجود لايركعون، وركوع لاينتصبون، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لايسأمون، لايغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله» ) . (نهج البلاغة:1 /14 )
كذلك هي عبادة سكان الملأ الأعلى، عبادةٌ لا كلل فيها ولا ملل.. حتى نصل الى عبادة أنبياء الله تعالى: آدم، ونوح ، وابراهيم ، وموسى، وعيسى عليه السلام ، فهذه أيضاً عبادة عباد وصلوا الى كمال المعرفة .
والمهم هنا أن نعرف معنى قول الإمام الهادي لأمير المؤمنين صلى الله عليه وآله : ( «أنت أحسن الخلق عبادةً» ) ، فهذه الثمرة العليا لشجرة الوجود ، وهذا المقام الأسمى في العبادة ، لم يبلغه ملكٌ من الملائكة، ولا بشرٌ بعد النبي صلى الله عليه وآله ، إلا أمير المؤمنين عليه السلام ! فما هي هذ العبادة التي صار بها أحسن الخلق عبادةً ؟
هنا يتضح لنا معنى قوله عليه السلام : («إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولاطمعاً في ثوابك ، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» ) . ( البحار:41/14 ) . (3)
أرجو أن نكون فهمنا معنى هذه الكلمة ؟!
إن علياً عليه السلام عابدٌ لربه من أول يوم جاء الى الدنيا في بيت ربه ، الى اليوم الذي قال في بيت ربه: فزت ورب الكعبة ! لقد رأى الجنة ولم يسمع بها ، ورأى جهنم ولم يسمع بها ، أنت تسمع بهما ، ولكنه رآهما !
وهي الجنة التي يقول عنها عليه السلام : («وكل شئ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه وكل شئ من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فليكفكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر ») . ( نهج البلاغة:1/225)
هذه الجنة التي فوق وصفنا، شطب عليها أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال لربه إلهي منذ عبدتك ماعبدتك شوقاً الى ثوابك وجنتك على عظمتها، لا من أجل نعيمها وخلودها ، وأشجارها وثمارها ، ولا حورها وقصورها!
فمَنْ غير علي بن أبي طالب قال هذ الكلام ؟!
وجهنم أيضاً، وأي جهنم هي أعاذنا الله منها ، وقد رآها أمير المؤمنين وكان يتعوذ منها ، وعرف أن طليعتها قوله تعالى: (﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شئ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾) . (سورة الحج:1- 2)
لكن الخوف منها لم يكن الدافع له عليه السلام لعبادة ربه !
فأيُّ قدرة عند هذا الشخص الذي يقول لربه أنا أحب ثوابك والنعيم، أنا أخاف من عقابك وأعلم أنه شديد ، وقد رأيته ، لكني لا أعبدك خوفاً منه ؟!
الله أكبر.. فهنا موضع التكبير ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام لربه إني لا أعبدك شوقاً الى ثوابك ، ولا خوفاً من عقابك ! فأي بشر هذا ، وأي مخلوق هو ؟ بل أي جوهر لم يعرف العالم قدره ؟!
إن روحه أعلى وأسمى من كل عالم الثواب والعقاب ، ومحيطهما !
فقد وصلت به تلك الروح السامية .. الى حيث يقول: ( لكني وجدتك ) !
تأملوا هنا لتعرفوا من هو علي عليه السلام ، وتعرفوه للناس هكذا كما هو ، لاكما يفعلون اليوم فيتكلمون حوله بلا طائل ، ويحوكون كلاماً على قدر فهمهم وإدراكهم ، ويقولون للناس هذا علي بن أبي طالب !
وجدتُك.. وأيُّ فمٍ من البشر يجرؤ أن يقول لذات الحق: ( وجدتُك ) ؟!
أنتم قضيتم عمراً في الدرس والبحث، وقرأتم باب اللقطة . وإن الضائع على الفطرة هو الله تعالى ، فأعماق فكر الإنسان وعقله تبحث عنه لتجده وتعرفه ، فمن الذي وجده بحيث يستطيع أن يقول: ( أنا وجدتُك؟! ) من ذلك الإنسان الذي يقول لله هذا الكلام ، ويخاطبه بكاف الخطاب: ( وجدتُك ) !
وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.. وبهذا نفهم كلمة الإمام الهادي عليه السلام في وصف جده أمير المؤمنين عليه السلام : ( «أنت أحسن الخلق عبادة »! )
ثم نصل الى ثمرة هذا النوع الفريد من العبادة ، ما هي؟
هي أن أميرالمؤمنين عليه السلام صار مصداق الحديث القدسي:(«عبدي أطعني أجعلك مثلي أقول للشئ كن فيكون، وتقول للشئ كن فيكون» ! ) (4) وصار المثل الأعلى لله تعالى: ( ﴿ وَللهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾) ( سورة النحل:60 )
وقد أخبرنا الله تعالى أن هذا المثل موجود في الأرض! ( ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. ) ( سورة الروم: 27 )
وصار من حق علي عليه السلام أن يقول: أنا ذلك المثل الأعلى لله تعالى !

من أرشيف الموقع 2016
|