ليلة من ليالي الشتاء الباردة ، صادفت شهر شعبان .. حيث تصر أمي على الجلوس للحناء وقيام حفلة صاخبة تحضرها نساء العائلة.
نهضت مفزوعا من نومي ، شيء ما كالردم قد هوى ..
أبي ممدد على الأرض وقد فارق لون بؤبؤ عينيه الرمادي بياضهما ، وأمي تولول بصياح ، يداها مقمطتان ترفعهما الى أ على جانبي رأسها ..
خدوج احدى قريباتنا كانت تلازم أمي وهي من تقوم بشؤون البيت خلال جلوس أمي على الحناء راكضة تجمع كل فوطات البيت وتمد بها أمي عساها توقف نزيفا حادا من شفة أبي السفلى.
أسأل نفسي ماذا وقع ؟
نهض أبي ليلا يقصد المرحاض فزلت قدمه وسقط ..
النوم يطبق على عيوني ، وضعت رأسي على طرف سرير أمي ،
عيون مغمضة وآذان واعية ..
قالت خدوج : نبهتك آلحاجة أن تبتعدي عن تلك الحناية، قلبها ما مزيانش وجنونها قباح ..
ترد أمي بقلق ورنة خوف :
هو (تقصد أبي) من اصر على اختيارها قال:
" أمرأة فقيرة لا معيل لها تشتغل على اليتامى"..
بين حين وآخر كنت افتح عيني . الدم يزداد تدفقا من شفة أبي التي صارت بضفتين ..
ضغط يعصر صدري ورائحة بيتنا خليط من طبيخ الليل وحناء وفحم وأنفاس .. لاهبَّة نسيم تتحرك في الفوقي (بيتنا)
حرارة تلفنا كأننا في عز الصيف رغم الجو الشتوي ..
أحست أمي بعطش فأشارت الى خدوج بيدها تطلب ماء ..
تتحرك خدوج فتتعثر في سروالها الأسود الفضاض الذي علق بأصبع قدمها الكبير ذي الظفر المعقوف الثخين فتكاد تسقط، لم يمنعها غير باب الغرفة وقد اتكأت عليها وعيونها تدور في محاجرهما..
تقصد خابية الماء الطينية في إحدى زوايا بيتنا فتحس بدوار .. تصيح وكأن الخابية قد صارت أحدى رؤوس الشياطين .. تعود الى حيث كانت والرعب يتفجر من عيونها ..
باستغراب تسالها أمي :
خدوج !! ..مابك ؟
تشير خدوج بعيونها حيث خابية الماء وحركت السبابة والوسطى دليل اثنين
وهي لا تكاد تبلع ريقها كان في فمها قد نبت شوك وقتاد ..
قالت أمي :
شنو كاين ؟ ياك لاباس !! ..
شرعت خدوج تتوسل باكية في خنوع وتذلل :
ـ سيادنا .. التسليم .. احنا مومنين .. الحدود الحدود سبحان الملك المعبود ..
ضاقت انفاسي باختناق فأسرعت الى النافذة ، فتحتها .. هواء بارد يكتسح بيتنا .. ألازم النافذة وأنا أتنفس بعمق ..
استكانت خدوج بعد أن تأكدت من وقوفي قريبا من الخابية ولا أحد قد مسني بسوء ..
أمي تتابع جرح أبي بإطلالة :
ـ لا باس ..النزيف فتر ..
انتعاشة تلف أبي الذي شرع يتنفس بعمق .. استطاع أن يتحرك وأن يجلس في مكانه بعد أن كان متمددا غائبا عن وعيه ..
أبي يقف على قدميه يفتح باب الفوقي وينزل الى مرحاض صغير بين الأدراج
صباحا زارنا الطبيب ابن يحيى وهو طبيب تعود زيارة مرضاه في بيوتهم وهو من يشير الى ما يجب عمله، هل يكتفي المريض بأدوية ويظل في بيته ام يلزم نقله الى أحد المستشفيات العمومية حسب نوعية المرض..
أول ماطلبه فتح النافذة الكبيرة المطلة على زنقة الحي وقد قال في قلق :
كيف لا تدوخون ولا تنفيسة في البيت ؟
وبعد أن حكت له خدوج ما وقع ليلا قال:
ـ يلزم أن تحمدوا الله أنكم بقيتم على قيد الحياة والا لكانت اليوم جنازتكم جميعا ..بركة هذا الشريف هي التي انقدتكم بإلهام من الله
فبادر وفتح النافذة .. الجهل قاتل ، يوميا يموت الناس بثاني أكسيد الكاربون من جراء غاز الفحم الذي يشارك الناس غرف نومهم ..
بعد إصرار من أبي استطاع الطبيب تعقيم الشفة المشقوقة ثم أستعمل ابرة خاصة للرتق ، كتب أدوية ثم صار يزورنا يوما بعد يوم الى أن تماثل ابي للشفاء ..
من يومها أدركنا جهلنا القاتل بالحياة والناس والغيب وان ما نخشاه هو من نفوسنا لا من خارجها.. تخلصت أمي من أرياحها فأبطلت ليالي الحناء ، وآمنت خدوج ان الجن لا يسكن الا النفوس الضعيفة وأن الأبالسة والشياطين من بني آدم أشد فتكا وخطرا على الانسان من نفسه ..
|