• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : التأثيرات العربية في شاعر الكرد العظيم فايق (بي كه س) .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

التأثيرات العربية في شاعر الكرد العظيم فايق (بي كه س)

 على الرغم من اختلاف المنشأ والمكونات للثقافتين العربية والكردية، إلاّ أن التقاءهما ليس مستحيلاً، فقد تطوعت أربيل لتحتضن المارد الشعري العربي بعد أن خفتت أضواء بغداد في نهاية الدولة العباسية، وقد ترافق مع ذلك نهضة شاملة في اربيل سياسياً وفكرياً وأدبياً، وساعد ظهور الناصر صلاح الدين الايوبي (ت 589هـ) (ولد وترعرع في اربيل) ومظفر الدين أبو سعيد كوكبري (ت630هـ) حاكم اربيل وزوج عديلة خانم أخت صلاح الدين الايوبي، على تغذية بيئة أربيل لتكون حاضرة تناظر الحواضر الجديدة التي برزت في شرق الدولة الإسلامية.

 ولكن التفاعل بين الثقافة العربية والمجتمع الكردي ولَّد امتداداً مطابقاً للتراث العربي كما أنشأ أدباً كردياً. كان ابن المستوفي، الذي يقوم تمثاله الضخم فوق قلعة أربيل اليوم، وزيراً للثقافة والشعر استقطب أهم العلماء والأدباء والمؤرخين. كما أنجبت أربيل أهم شخصيات تلك البيئة  كالمؤرخ ابن خلكان، والشاعر الكبير الحاجري (بلبل الغرام) كما يسميه النقاد. وقد عرف حاكم أربيل مظفر الدين ببذخه على العلماء واستقدامه إياهم من اداني واقاصي البقاع إلى إمارته حتى الاندلس؛ فقدم منها علماء كثر امثال: أبي عبد الله الزهري الاشبيلي، أبي علي الاندلسي، البرزالي، الواعظ ابي زكريا يحيى بن احمد، وأبي طاهر الانماطي وغيرهم.

 والذي يطلع على كتاب (خريدة القصر) يتأكد من ان أدباء تلك البيئة وعلماءها كانوا أكرادا كلهم أو جلهم، ولكنهم حملوا بأمانة التراث المعرفي العربي وكانوا خير امتداد له، بل هم من نهض به بعد أن تزعزع مركز الخلافة في بغداد إلى درجة أن ياقوت الحموي حين زار أربيل أبدى عجبه وقال عن سكانها: "إنهم أكراد مستعربون!". وكانت مؤلفات هؤلاء كلها باللغة العربية، بل ان ابن المستوفي كتب تاريخ أربيل بالعربية واسماه (نباهة البلد الخامل بما ورده من الأماثل) إشارة إلى الهجرة العلمية من أرجاء الدولة الإسلامية إلى أربيل. وعلى العموم أفاد الشعر الكردي الذي بدأ يتكون ليكتسب هويته من ذلك التراث كما استفاد قبله في تكونه الشعر الفارسي.

كان صدام المقبور لا يثق بولائنا (الفيليين) فابعدنا عن خطوط الجبهة لنكون دروعا بشرية للجيش تحميه من هجمات (البيشمرگه) فوزعنا على طول الطريق من جلولاء الى السليمانية بربايا في الاقضية والنواحي والقرى الكردية. وقد أتاح لي الاختلاط التقدم في تعلم الكردية السورانية – وقتها – ووفرة الوقت مراجعة المكتبات العامة والخاصة ولاسيما مكتبة كفري لأتعرف الى الادب الكردي وشعرائه. فقرأت عن أحمدي خاني (ت 1706م) صاحب ملحمة مم وزين، ومولوي (ت1892م) وكووي (ت1892م) وبيره ميرد (ت1950م) وعبد الله ﮔۆران (ت1962) صاحب قصيدة (پاييز = الخريف) المقررة على الرابع الاعدادي. وكان أهمهم واكثرهم جلبا لاهتمامي  الشاعر فايق بي کەس (ت 1948م).

 يعد (فايق بي کەس) بحق أمير الشعر الكردي المعاصر لما يتمتع به من شاعرية فذة، وقدرة على تطويع واغناء اللغة الكردية في كتابة شعر عالمي. و(بي کەس) لقب يعني (بلا نظير، بلا أحد). حفظ (بي کەس) المعلقات السبع مع قراءة دقيقة، وأطلع بشغف على الشعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام وانتهاءً بالجواهري الذي تبادل معه الإعجاب. وحسبي في هذه العجالة أن أشير إلى  بعض التأثيرات العربية في شاعر الكورد العظيم (فايق بي کەس).

قرأت ديوان (بي کەس) أو ما قدرت عليه في كلار حيث طبع ديوانه، وقد قامت حكومة البعث لاحقا بسحبه من المكتبات ومنعت تداوله، وبقيت محتفظا بنسخة ديوانه الى ما بعد التسريح. وهذه المعلومة اردت بها ايضاح مكانته الثورية بحيث ان السلطة تعقبت ديوانه وهو ميت فمنعته، وقرأت ان قبره نبش بعد دفنه.

 إن القراءة المتأنية لديوانه تكشف إطلاع (بي کەس) على نظرية (المعاني المطروحة) التي أطلقها الجاحظ؛ فهو شاعر يهتم باللفظ بشكل لافت ويجعل منه قيمة ثابتة في قصائده، ففي قصيدته (أيها القمر) نلمس جمال الالفاظ، وجودة التقسيم البلاغي:

(ئهي مانگ من و تو هاو دردين/ ههردو گرفتار يهك ئاهي سردين/ تو ويڵ ورنگ  زهرد به ئاسمانهوه منيش دهر بهدهر له شارانهوه = أيها القمر..أنا وأنت همنا واحد/ كلانا، حزيناً، ينفث الآهة نفسها/أنت تجوب السماء أصفر شاحبا/وأنا، مطروداً، أجوب مدن الأرض).

 وفيما يخص الاوزان الشعرية، نجده إلى جنب الأوزان الشعرية الكردية، يطوّع بعض الأوزان العربية لشعره الكردي كبحر الرمل والرجز والطويل، كما يلتزم غالبا بالقافية وينوعها. كذلك نلمس ولعه بمجاراة الشعر العربي؛ ففي قصيدة يخاطب بها الوطن نجده يكتب مقطعاً بالكردية ومقطعاً بالعربية (ملمع)، وهو يحرص على أن يضم اللغتين قالب واحد في الوزن والأفكار:

ئهي وهتهن من ههر به يادي تۆوه شهوگاران ئهنووم

" كل صبح بهواك استفيق وأقوم"

خۆزگه صهد خۆزگه خودايه ئيسته  من تهيري ئهبووم

" بجناحيّ أطير، في صحاراك أحوم"

"تارة فوق الجبال تارة بين الكروم"

وله غير ملمع من هذا القبيل. بل نجده يتعدى ذلك إلى ما يقنعنا بأنه راسخ في ولعه بالمجاراة والسباحة في ذلك إلى الأعمق، فقد كتب غير قصيدة يحاكي بها أبا نواس في خمرياته، وقد عمد في احدى هذه المجاراة إلى تخميس سينية أبي نواس (أي يجعل أربعة اشطر من شعره الكردي والشطر الخامس يكون مضمناً من قصيدة أبي نواس.

ونقرأ له قصيدة كتبها بالعربية بعنوان (قصيدة عربية الى فتاة سورية) يقول منها:

سورية ملكت فؤادي بعينها

ورمتني في بحر الهوى بسهامِ

أنستني كل مليحة كانت لها

سوقا بقلبي وافرا وغرامِ

جذبت قلوب العاشقين بعينها

جذبا كجذب الشمس للأجرامِ

هذي قصيدة عاشق قد قالها

من قلبه المملوك بالآلامِ

وبخلاف أقرانه شعراء الكورد أمثال (بيره ميرد) و(دلدار)، فقد حرص على أن يجعل من قصيدته – وخصوصا في الوصف – مهرجاناً واحتفالاً لفظياً بهيجا مبهرا، فتشاهد الطبيعة في جرس الفاظه قبل أن يتناولها بالمعنى والفكرة وذلك بالإكثار من تنويعات الترادف وتلاوين الحروف، وأوضح مثال على ذلك قصيدته في وصف جمال مدينته السليمانية، وهذه الخصيصة نجدها عند شعرائنا الوصفيين أمثال الصنوبري وابن خفاجة الأندلسي.

 و(بي کەس) شاعر يعتز بكرديته كما في قوله: (ليس بكل الأرض مثل كردستانْ/ باريس تفديها ولبنانْ)، كما أن قصائد سياسية مثل (الشهيد) تناولت الهم العراقي برمته فالتقى مع معاصريه من شعراء العروبة في الطرح.

 وأخيراً فان بي کەس عمد إلى تقسيم ديوانه مثل أحمد شوقي في (الشوقيات): القصائد القومية، والقصائد الوطنية، والقصائد العاطفية، وجعل للأطفال حصة موظفاً الموروث الشعبي العراقي في قصص تنتهي بحكمة وموعظة تعلم الأطفال، مما يدلل على تأثره بكل شعراء العربية القدماء والمعاصرين.

 لقد كان (بي کەس) شاعراً عظيماً حقاً لأنه امتد بقامته عبر ثقافتين أصيلتين (العربية والكردية) واستطاع أن يوظفهما في شعره الأصيل، فكان أمينا على تراث آبائه وتراث الأمة العربية التي حمل آباؤه أيضاً أعباءها في أربيل عندما انحسرت الحياة الثقافية في العاصمة (بغداد)، فكان بلبل الشعر الكردي الذي مثل تفاصيل حياة كردستان، فهو مع خضرة جبالها ووداعة وديانها وخرير شلالاتها الدافقة صوتاً يعيد ترتيب الحياة بوقع منتظم. وقد أجاد الجواهري في رثاء الشاعر فايق بي کەس بقصيدة مطولة منها:

أخي "بي كه سٍ" والمنايا رَصَدْ

وها نحنُ عاريَّةٌ تُسترَدْ

أخي "بي كه س" يا سراجاً خَبَا

ويا كوكباً في دجىً يُفتقد

ويا صَيْدَ "مجتمع .." دونَه

فريسٌ تَلوَّى بِشدقَيْ أسَد

ويا حاصداً من كريم الزُّروع

غلال الأسى، والأذى، والحسد

ويا نُهزةَ الحقد .. حقدِ الذئاب

على حَمَلٍ سارحٍ لم يُصَد

"بِلا أحدٍ" .. سُنَّةَ العبقريّ

يعي الناسَ .. إذ لا يعيهِ أحد

"بلا أحدٍ" .. غيرَ خُضرِ الجبال

ووحي الخيال .. وصَمتِ الأبد




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=179508
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 03 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29