كان لبزته العسكرية هيبة رائعة، تترك على سحنات وجهه الأبيض وعينيه العسليتين جمالاً وبهاء، أما صوته النقي الذي استلّه من مكان ولادته المعشوشب بالاخضرار والمزدان بالبراري والأزهار، والمضمخ بري الأرض المعطاء، فكان له حكاية أخرى تفور من جنباتها آيات الحب والانتماء .
لا أعرف لماذا كلما صافحت عيناي وجهه كأني أراه بعد خمسة عشر من أعوام الفراق؟ كما أني أجهل حصر نقاط التشابه التي يممت ذلك الحب وأوجدته الآن على أرض الواقع المعاش، لكن رؤيته اليوم تسلب قراري وتعيدني أسيرة نحو تلك الأفياء.
استرقت النظر اليه وهو في مكتبه لبرهة من الوقت، وتلمست خلسة ما يدور.
كنت أبحث عنه وفيه، وأحوم كحمامة أطلقت هديل الاشتياق، فوجدت الشموخ والعزة والكبرياء تنبعث من تلك الآفاق، ووجدت سجلاً حافلاً بالإنجازات المكللة باللقاءات والمؤتمرات، سيرة عز تتوج سنين العمر الماضي وتؤطر المستقبل شموعاً وأنواراً وبهاء، وعلى الرغم من تقدمه في السن، إلا أن وهج سناه مازال يبهر الآخرين بطراوة فكره وبراعة طروحاته الغناء .
لم أنسَ قط تهنئته في عيد الجيش الأغر، كلما مر الزمان، وحلت تلك الذكرى في الارجاء، أهاتفه وأبادله التبريكات، كان يقهقه بصوته العذب فيملأ الكون بهجة وامتلاء.
تلك القهقهةُ المشتهاة التي أشتاق اليها وأقدمها على كل النعم المتاحات، وأغرق فيها حد التلاشي والفناء، وأذوب في ذبذبات الذكرى المخترقة كل العوالم الراحلات.
لم أشأ النوم وقت الظهيرة إلا بعد انتظار عودته تحت عناقيد العنب المتدليات في حديقة الدار، وقد استملكت زراعة الأرض شغفه وهواه حتى أبدع في زرع الحديقة بكل فن وإتقان، وجملها بأشجار البرتقال والرمان، ونثر في أطرافها بذور الورد والريحان، واصطفت العناقيد تظلل الارض بأغصانها الملتوية وتروي حكاية العشق بكل عنفوان.
في مؤتمر تصدر جلسته، وجدته محنكاً بارعاً يروض الكلمة، ويطلق عنانها، فتأسر الأرواح، ويلطف الجلسة بنكهة نكتته التي تستقطب القلوب والأذواق، ذو منطق بليغ وفكر راق ورقراق، ينساب بين جداول الحروف، فيلملم الأسطر، وكأنه يجتز الأصيل من عمق الحرف الوضاء.
له حضور أخاذ، ومكانة مرموقة أوجدتها سنيُ كفاحه في الحياة، ومسيرة عامرة بالجهود المضنيات، التي كللت في النهاية لوحة حياته بفرشاة العمل الدؤوب دونما كلل أو انقطاع .
ولطالما تساءلت: ترى ما وجه الشبه ونقاط الالتقاء؟ ولِمَ كلما ألقاه تهيج وتحرقني الذكريات، التي كان آخرها وجعاً وارتباكاً، لما أبدلت له ملابسه بكل حب واحتواء، وكببت على جسمه النحيف قليلاً من مسحوق عطر الأطفال، وعانقت عينيه وهو في نفسه الأخير مبتسم الوجنات، وضاء الوجه، صبوح القسمات .
في النهاية أدركت أن لكلمة (ابنتي) وهجها وصداها الذي كشف اللثام عن سر ذلك الكم الهائل من الارتباط الروحي الخلاق، فلقد روت تلك المناداة بساتين قلبي المقفرة بعد رحيله دعاء ووفاء وارتواء.
|