أطرق برأسه نحو الأرض، يتأمّل أديمها ولا يتأمّل، ويغوص بنظرته الدامعة في عمقها المثقل، وتسحّ من مقلتيه دمعتان، تغسلان خدّيه الشاحبين وجداً، وتنحدران على صفحة الضريح المنسكب بين يديه، قد أسند رأسه إليه، ويتذكّر عمه غريب كربلاء (عليه السلام): «ما أشبه اليوم بالأمس، فهل كتب علينا نحن ذرية المصطفى، أن نعيش في الدنيا غربتين، غربةً عن الأهل والأوطان، وغربةً عن كوثر الجنان؟!».
ولكن عزاءه الذي لا ينفد، أن له في هذه الأرض الغريبة جارا، قد اتّخذ مثواه له دارا(1)، وصار يؤمّه ويبثّه لوعته ليلًا ونهارا، ويعد نفسه بقرب اللحاق به، وهو الذي سبقه إلى دار القرار، وإن في نفسه لشعورًا لا يُنكر، أنه وإياه في المصير سيان.
ولكن هذا قد يعني في ما يعنيه، أنه لن يلتقي بعدُ بأحبّته، وهو منكفئٌ ها هنا في غربته، على الأقل، ليس بالأحبة الأحياء، بعدما ودّع بقلبه الملتاع ثلاثةً من أئمة الهدى، عايشهم وناصرهم وقدّم بين يديهم نثير الولاء وقطر الندى، الكاظم ثم الرضا والجواد (عليهم السلام)، ثم الهادي (عليه السلام) الذي يعيش الآن على أمل لقائه، وقد تتلمذ عليهم وغدا من ثقاتهم ورواتهم، وكانت لهذه المعرفة ضريبة أخرى، هي ضريبة المحبّ الموالي، فلاحقه بنو العباس بجورهم، حينما عرفوا بتواصله مع الإمام الهادي وزيارته له في سامراء، فأشار عليه الإمام بالتخفّي والتقية، وها هو قد خرج منها خائفًا يترقب، ينتقل من بلدٍ إلى بلد، حتى استقرّ به المقام ها هنا في الري، في سربٍ(2) بمنزل رجلٍ شيعي، لا يعلم بهويّته إلا القليل، وقد غدا للشيعة موئلًا يلوذون به وبعلومه وأحكامه، التي يرجو أن يكون قد استطاع أن ينال بها رضا ربه وإمامه.
رباه، إن كلّ ما مرّ فيه لا يعادل ما هو الآن فيه، فبعده عن أئمته يضنيه، ولكنه بإيمانه مطمئن، وكيف لا يكون، وقد شهد له مولاه الهادي(عليه السلام) حينما عرض عليه إيمانه بقوله: «يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة»(3).
ولعل ما يزيد من وطأة الأمر عليه، أن المرض قد أخذ منه مأخذه، ولعله مشرفٌ على الموت قبل أن يلقى إماميه الهادي والعسكري، وإن شوقه إليهما لآخذٌ بمجامع لبّه، ولكنه لم يزل موافقًا لهما في أمره، مطيعًا لهما في سرّه وجهره، ويسأل الله تعالى أن يلحقه بهما في الدنيا، أو بآبائهما في الآخرة، ولكن الغصّة العظمى تكتنفه، إذ يرى أنه لن يلتقي بالحبيب الأكبر، ولدهما المهدي المنتظر..!
ويقوم السيد الحسنيّ من موضعه مكفكفًا دمعه، ويتابع صلاته بقرب الضريح وهو يسترجع حديث إمامه الجواد: «يا أبا القاسم، أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج»(4)، «ما ضرّ من مات منتظرًا لأمرنا ألا يموت في وسط فسطاط المهدي أو عسكره»(5).
ويربّت بيده الواهنة التي تشتدّ وتقوى حالما يقف للعبادة، على تلك الرقعة التي تستقرّ في جيبه، التي تحمل اسمه ونسبه الشريف، فهي مع عمله تختصر زاده، ويرجو أن يجدها الدفّان حينما يهيّء له في قبره الوسادة، ليخطّ بحبر القلب، أن ها هنا يرقد غريب الري، مواسيًا بغربته أئمته، ومنتظرًا لقائمهم أحسن الانتظار، وقد قام بعمله على خير وجه، وغدا له بحقٍّ واحدًا من الأنصار.
ــــــــــــــــــــ
(1) هو قبر الحمزة بن الإمام الكاظم (عليه السلام).
(2) السرب: القبو أو السرداب.
(3) رسالة الصدوق في عقائد الإمامية، باب التوحيد والتشبيه.
(4) كفاية الأثر: ص280.
(5) الكافي الشريف: ج2/ ص252.
|