• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : نِعَمُ الله.. المَنسيَّة! .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

نِعَمُ الله.. المَنسيَّة!

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
البؤسُ والتباؤس، وكثرة الشكوى، وقلَّة الشكر، والسلبيَّة المطلقة التي لا حَدَّ لها، هي سِماتٌ يراها المؤمنُ في كثيرٍ من الخَلق اليوم!
 
لا يرى هؤلاء أنَّهم يعيشون في نِعمةٍ أبداً، فلا يحمدون ولا يشكرون، بل لا يرون لله عليهم فضلاً!
 
ينظرُون إلى بعض البلاءات النازلة بهم، ويغمضون الطَّرفَ عن كلِّ ما عداها، فلا ترى أحدَهم إلا شاكياً دهرَه! باكياً أمسَهُ ويومَه! ناعياً غَدَه! حتى تتوهَّم أنَّه قَد حُرِمَ مِن كُلِّ نِعَمِ الحياة! وأنَّ الله تعالى ما أعطاه شيئاً مما أعطى سواه!
 
يُسارعُ العاقلُ إلى كتاب الله تعالى باحثاً عن السرِّ في هؤلاء، ويتأمَّل في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم34).
وفي قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنيرٍ﴾ (لقمان20).
 
فيُدرك أنَّ هؤلاء ليسوا من أهل الهُدى والرشاد، والعدل والسداد، ولا من حَمَلَة العلم والفهم والإنصاف، بل من أهل الجحود والظلم والكفر والجهل.
كيف لا.. وَنِعَمُ الله تعالى لا تُعدُّ ولا تُحصى، حتى عند أشدِّ الناس بلاءً وشِدَّةً وفقراً ومَرَضاً وعَوَزاً!
 
لقد أرادَ النبي (ص) أن يُذَكِّرَ أصحابَهُ يوماً بالنِّعمة امتثالاً لأمر الله تعالى، فقال لهم: مَا أَوَّلُ نِعْمَةٍ رَغَّبَكُمُ الله فِيهَا وَبَلَاكُمْ بِهَا؟
فذكروا بعضَ ما بلغتهُ أفهامهم، فأدار صلى الله عليه وآله السؤال على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عليه السلام:
 
أَنْ خَلَقَنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَمْ أَكُ شَيْئاً مَذْكُوراً!
قَالَ (ص): صَدَقْتَ.
 
ثم ذكرَ عليه السلام (بعضَ) نِعَمِ الله تعالى، وكلُّ واحدةٍ منها عظيمةُ الشأن، جليلةُ القدر، يعجزُ الإنسان عن إدراك عظمتها، وقَد نالَها دونَ طَلَبٍ ونَصَب، فكان منها:
 
- أَنْ أَحْسَنَ بِي إِذْ خَلَقَنِي فَجَعَلَنِي حَيّاً لَا مَيِّتاً.
- أَنْ أَنْشَأَنِي فَلَهُ الْحَمْدُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَعْدَلِ تَرْكِيبٍ.
- أَنْ جَعَلَنِيَ مُتَفَكِّراً رَاغِباً لَا بُلَهَةً سَاهِياً.
- أَنْ هَدَانِي وَلَمْ يُضِلَّنِي عَنْ سَبِيلِهِ.
- أَنْ سَخَّرَ لِي سَمَاءَهُ وَأَرْضَهُ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَلْقِهِ.
 
كلُّ هذا وسواه، والنبي (ص) يقول له: صَدَقْتَ، حتى قال عليه السلام: كَثُرَتْ نِعَمُ الله يَا نَبِيَّ الله فَطَابَتْ.
حينها تَبَسَّم النبي (ص) وقال: لِتَهْنِكَ الْحِكْمَةُ، لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْحَسَنِ! (الأمالي للطوسي ص492).
 
هكذا هم الأنبياء والأولياء، أكمَلُ النّاس وأشدُّهُم بلاءً، لا يرون فيما أولاهم الله تعالى إلا نِعَماً لا تُعدُّ ولا تُحصى، تَطيبُ النِّعَمُ وتَطيبُ نفوسُهُم بها ولو كانوا في أشدِّ ظروف الحياة قسوَةً، ويحمدون الله ويشكرونه، حيثُ يرون ما لا يرى الناس من نِعَمِهِ وأفضاله وأياديه البيضاء عليهم.
 
ثمَّ يستَلهِمُ المؤمنُ الدروسَ والعِبَر مِنهم عليهم السلام، قَولاً وفِعلاً، فيتعلَّم أنَّ أوَّل واجباته تِجاهَ هذه النِّعَم هو (معرفتها بقلبه)، ثم (شُكرُها بلسانه)، ثمَّ (العمل بها واجتناب المحارم فيها)، ثمَّ (إظهارها وإبرازها).
 
يقول الصادق عليه السلام: مَا أَنْعَمَ الله عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ، وَحَمِدَ الله ظَاهِراً بِلِسَانِهِ، فَتَمَّ كَلَامُهُ، حَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالمَزِيدِ (الكافي ج‏2 ص95).
فكيفَ يُريدُ المنكرون للنِّعم بقَلبِهم ولسانهم أن يزيدَهم الله تعالى منها؟! أيظنون أنَّهم بحَولِهِم وقوَّتِهِم قد نالوا شيئاً من تلكَ النِّعم!
 
وعنه عليه السلام: شُكْرُ النِّعْمَةِ اجْتِنَابُ المَحَارِمِ، وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ: الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعالَمِينَ (الكافي ج‏2 ص95).
فكيف يُريدُ الغارقون فيما حَرَّمَ الله تعالى أن يتغمَّدَهم برحمته ونِعَمِه وهم لا يشكرونها؟! وقد ورد في الحديث: فَالْعَمَلُ بِالنِّعْمَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الحَدِيثِ بِهَا (الإختصاص ص152).
 
ثمَّ إنَّ إظهار النِّعَمِ مِمّا أمَرَ الله تعالى به عبادَه، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام أنَّ الله تعالى: يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَى عَبْدِهِ (الكافي ج6 ص438).
 
وقال الصادق عليه السلام:
إِذَا أَنْعَمَ الله عَلَى عَبْدِهِ بِنِعْمَةٍ فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ سُمِّيَ حَبِيبَ الله، مُحَدِّثاً بِنِعْمَةِ الله.
وَإِذَا أَنْعَمَ الله عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ فَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ سُمِّيَ بَغِيضَ الله، مُكَذِّباً بِنِعْمَةِ الله (الكافي ج6 ص438).
 
إنَّ إظهار النِّعمة من الدِّين، والمُظهِرُ لها محبوبٌ في السَّماء الأرض، لأنَّهُ مُمتَثِلٌ لأمر الله تعالى، مُساهِمٌ في إرشاد الناس إلى الله عزَّ وجل وبيان أنعُمِه وحُسنِ عطائه.
 
فكَم هو الفرقُ بين طائفتين من النّاس، تعيشان الظَّرفَ نفسه:
 
1. ترى الأولى منهما أنَّها غارقةٌ في نِعَمِ الله تعالى، لا تستُرُ شيئاً منها بفِعلِها ولا بلسانها، تحمَدُ الله تعالى على كلِّ ما أولاها، مما تنبَّهَت له أو غفلت عنه، فتراها تعيشُ الرِّضا والطمأنينة والسكينة، متوكِّلَةً على الله في أمورها.
 
2. ولا ترى الثانية منهما لله عليها نعمةً، بل لا ترى أنَّها مغمورةٌ بالنِّعَمِ أبداً، فإن لاحَت لها نِعمةٌ من الله تعالى سَتَرَتها، وأكثَرَت الشكاية من كلِّ شيء حتى لم تَعُد ترى في الحياة خَيراً أو نِعمَةً! فعاشَت وماتَت ساخطةً على الحياة وما فيها!
 
كَم هو الفارق بين هاتين الطائفتين؟ وكَم هو الأثر الذي يتركُهُ كلُّ سلوكٍ على النَّفس والأسرة والمجتمع؟!
 
لقد ورد أن النِّعمَةَ إذا رؤيت حتى على الخادم فإنَّها: تَسُرُّ الصَّدِيقَ وَتَكْبِتُ الْعَدُو (من لا يحضره الفقيه ج2 ص294).
وهؤلاء لا يسرُّون أنفُسَهُم فضلاً عن صديقهم!
 
ثمَّ إنَّ مَن اعتادَ على نِسيان النِّعَم أو إنكارِها أو جحودها أو إخفائها قد يسري معه ذلك إلى أتمِّ النِّعَم وأعظمها.. بدءً من نعمة الخلق حتى نعمة الهداية، وهذا حالُ الأمَّة بَعدَ نبيِّها!
 
لقد أتمَّ الله تعالى نِعَمَهُ على الناس يوم أكملَ لهم دينهم ورَضيَ لهم الإسلام ديناً، فكان يوم الغدير، لكنَّ الأمة لم تقرَّ بهذه النِّعمة العظيمة جرياً على عادتها، فقال تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ﴾.
 
وقد قال أميرُ المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام: نَحْنُ وَالله نِعْمَةُ الله الَّتِي أَنْعَمَ الله بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَبِنَا فَازَ مَنْ فَاز (تفسير القمي ج‏1 ص86 و371).
وقال الصادق عليه السلام: نِعْمَةُ الله مُحَمَّدٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، حُبُّهُمْ إِيمَانٌ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ يُدْخِلُ النَّار (مقدمة الصحيفة السجادية ص20).
 
إنَّ أغلبَ مَن في هذه الأمَّة قد ساهموا في إخفاء وإنكار نعمة الله الكبرى عليهم، حين أكرمهم بحمدٍ وأهل بيته الطاهرين، فجحدوا حقَّهم وأنكروه، وأخفوا فضلَهم وستروه، فأبغضهم الله تعالى وأعدَّ لهم عذاباً أليماً.
 
وهكذا صِرتَ:
1. تنظُرُ إلى المؤمن فتراه مطمئنَّ النَّفس، قَريرَ العَين، واثقاً بِرَبِّه، متوكِّلاً عليه، مُسَلِّماً له أمرَه، صابراً على بلائه، شاكراً لنعمائه، وقد تمسَّك بأتمِّها وأرفعها، محمدٍ وآله عليهم السلام، فما ضَرَّهُ لو زُوِيَت عنه الدُّنيا يوماً، أو ضاقَت عليه ساعةً، فإنَّه يترقَّبُ الفرج الآتي، وكلُّ آتٍ قَريب.
 
2. وتنظر إلى غير المؤمن، ممَّن غرَّتهُ الدُّنيا، واتَّخذها داراً ومنزلاً كأنَّه خلق لها، فلا تجدُ عندَه إلا القنوط واليأس، والاضطراب والقلق، والبؤس والتباؤس، معَ عظيم ما هُوَ فيه مِن نِعَمٍ يشتركُ فيها كلُّ البشر!
 
حتى صار أحدُهُم مصداقَ قول أمير المؤمنين عليه السلام لما حذَّرَ من الدنيا:
وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا، وَلَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ الله! (نهج البلاغة الخطبة 173).
 
يخنُّ هؤلاء على بعض ما مُنعوا في الحياة الدُّنيا كبكاء النِّساء عندما يخرج الصوت من أنفهنَّ، وقد بلغوا ذلك لمّا ازدَرَوا نعمةَ الله تعالى واحتقروها، أو جحدوها وأنكروها!
 
فجهلوا أنَّهم بفعلِهم هذا حوَّلوا النِّعمة إلى نقمةٍ حين لم يشكروها، وغاب عنهم أنَّ المؤمن الذي ابتلاه الله تعالى قد حوَّلَ المصيبةَ والبلاء إلى نعمةٍ بصبره.
فخسر المبطلون لما أقبَلَت النِّعم فلم يشكروا، وأدبَرت فلم يصبروا.
 
وفاز المؤمنون لما شكروا فازدادوا، وصبروا فنالوا الثواب العظيم، وجنّات النَّعيم.
 
جعلنا الله تعالى من العارفين لنعمائه بقلوبنا، الشاكرين لها بألسنتنا، المُظهرين لها في حياتنا، وزادنا وجميع المؤمنين من نعمه بحق محمدٍ وآله، إنَّه سميعٌ مجيب.
 
والحمد لله رب العالمين
 
الثلاثاء 20 ذو القعدة 1443 الموافق 20 – 6 – 2022 م




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=169836
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 06 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28