انجز الهجوم الايراني الواجب المتوخى منه وهو محاصرة المحمرة وعزلها عن باقي الواقع العراقية ومن ثم دخولها من دون قتال واسر الجنود المتواجدين فيها او مقاتلتهم من دون ان يستطيع الجيش العراقي تقديم العون او الامدادات لهم في حالة اصرارهم على القتال وكانت القوات الايرانية اول مافرضت سيطرتها على شمال المحمرة بعد ان كانت تسيطر على شرقها اساسا ومن ثم اتجهت غربا حتى الحدود الدولية في منطقة الشلامجه بعدها تم الالتفاف على المقبرة القديمة وغلق كل المنافذ المؤدية للمدينة عدا منفذ شط العرب من الجنوب وتحديدا منطقة ميناء المحمرة حتى المكان المقابل لجزيرتي الفياضية وام الرصاص وكان عرض شط العرب من هذه المنطقة بحدود 1000 متر مما صعب مهمة من يريد عبور شط العرب سباحة الى ضفة العراق والنجاة بنفسه تحت وابل رصاص وقذائف الايرانيين التي ما انفكت تسقط بغزارة لمنع العابرين وغرق بالشط عشرات الجنود ان لم يكن المئات ممن لايجيدون السباحة او تعرضوا لاصابات اثناء عبورهم وكانت قماصل الجنود وملابسهم الملقاة على الضفة تشكل تلولا من الخاكي وكان اغلبها منتفخة الجيوب برواتب شهرين او ثلاثة بعد ان توقفت الاجازات بسب الاستحضارات لصد الهجوم مما حدا بالبعض من الجنود الى التجول هناك تحت القصف ومحاولة تفريغ تلك الجيوب من النقود التي تمتلي بها في اكياس نايلون وجمع مبالغ محترمة والتمتع بها في حالة كتب لجامعها النجاة خصوصا وان اغلب هؤلاء هم من المهرة في العوم والسباحة .في حين استسلمت اغلب القطعات المتواجدة داخل المدينة وجنودها الى قدرها وانتظرت دخول القوات الايرانية لاسرهم بعد ان اعدوا اعلاما بيضاء من شراشفهم او ملابسهم الداخلية وجلسوا بمجاميع صغيرة وكبيرة حسب ظروفهم وحدود صداقاتهم او تعارفهم لكن الايرانيون اجلو دخول المحمرة كآخر فقرة في هجومهم حتى تكون لقمة باردة مستساغة ويكون المحاصرين قد وصلوا جميعا الى مرحلة اليأس والاستسلام وبعد ان عجز الجيش العراقي من فتح ثغرة يقدم لهم الاسناد من خلالها او يجعلهم يخرجون باتجاه العراق كما لم يركز الجيش الايراني على غلق منفذ شط العرب القسري ربما لاسباب نفسية تعجل بانهيار المعنويات وتسرب الاحباط للجميع . وكان الايرانيون قد استولوا على الكثير من مواقع الوحدات العراقية بكامل معداتها صالحة للعمل بعد ان تركها الجنود وانسحبوا للخلف وكان من ضمن ماحصلوا عليه سيارة اسعاف جاهزة وصالحة للعمل مركب عليها مسجل وسماعة خارجية على مقدمة السيارة وانشودة ( ياسيف الاسلام سيفك امانه بيدين صدام سيف بمكانه ) فقامت الاستخبارات الايرانية بربط جهاز اتصال ميداني وتكليف عناصر استخبارات ايرانية يتكلمون العربية وذو معرفة بالاراضي العراقية وتشخيص للمواقع الطبية والعسكرية وأخذ هؤلاء على عاتقهم التحرك بين مناطق القتال ومواقع المستشفيات ووحدات الميدان الطبية من اجل مراقبة حركة الجيش والامدادات ووضع الوحدات الساندة ومدى قربها من خطوط الاشتباكات ولكي تمر المهمة بسلام وتلقائية قاموا بنقل بعض الجرحى من السواتر الى المواقع الطبية وكان من حسن حظ المقدم زكي واحسان وحوشي وغيرهم ان نقلوهم كجرحى باصابات خطرة الى وحدة ميدان طبية وهم فاقدين الوعي او بحالة شبيهة بذلك مما جعل الوحدة الطبية تحولهم الى مستشفيات البصرة المتخصصة وارسلت معهم مأمورا منها وكانت فرصة لعناصر المخابرات دخول البصرة والاطلاع على الاحوال فيها ولو بشكل سريع . اجتازت سيارة الاسعاف التي يصدح جهاز التسجيل فيها وسماعته الخارجية بكلمات الانشودة القائلة - ابو حسين علي .. يكرار علي .. ياسيف الاسلام سيفك امانه - شوارع البصرة التي سيطر عليها الخوف وقلت الحركة الا من سيارات الجيش والجنود وقليل من المارة حتى وصلت الى مستشفى الموانئ وسط المدينة فاستلمت الكوادر الطبية المصابين وادخل زكي الى غرفة العمليات لاجراء عملية جراحية مستعجلة له في منطقة الاصابة بالبطن وتم رفع اكثر من مترين من امعائه الدقيقة التالفة وبما انهم لايعرفون اسمه او رتبته اضافة لفقدانه الوعي فقط اعطي رقما ووضع بعد العملية في ردهة العناية المركزة وتم التعامل مع رفاقه الاخرين بنفس الطريقة وكانت سيارة الاسعاف قد عادت بالمأمور الى الوحدة الطبية ومن ثم واصلت عملها بمراقبة الجيش الذي فقد السيطرة على حركته .وقد لفتت سيارة الاسعاف تلك نظر كل من تواجد بالقاطع من عناصر ووحدات الجيش العراقي لكن لم يدر بخلدهم انها مستخدمة من قبل عناصر مخابرات ايرانية ولم تفطن الاستخبارات العراقية الى ذلك ربما لتركها مناطق القتال بوقت مبكر وهكذا بد القصف الايراني تبعا للاحداثيات التي ترسلها سيارة الاسعاف التي يصرخ منها صوت سعدون جابر .. ياسبف الاسلام ..
سيفك امانة فتم قصف السيارات المحملة بالعتاد والمؤن واصبح الطريق الرئيسي البصرة - المحمرة معرضا للقصف بين لحظة واخرى واحترق جراء ذلك العشرات من سيارات ( الايفا ) التي كان بعضها محمل بالجنود والبعض الاخر بأعتدة ومعدات وتحولت الخلفيات القريبة من خط التماس الى جحيم هرب من لظاه كل من سنحت له الفرصة ومات من لم يسعفه الحظ واضطر الخارجون من عنق الزجاجة بالمحمرة سلوك طريق اخر عبر جزيرة الفياضية ثم نهر الصالحية المحاذي لمنطقة شلهة الاغوات والبوارين والتنومة ومن ثم التوزع تحت نخيل (كوت الكوام وكوت الساده وكوت الهواشم وغيرها من المناطق البعيدة نسبيا عن مساقط القذائف الايرانية او الدخول الى العشار عبر جسر التنومة الذي انسحب منه عناصر السيطرة الى اماكن آمنة . وكان الخارجين من المحمرة سببا مضاف لتدهور المعنويات اذ كانوا ينقلون صورة مخيفة عن اعداد الجيش الايراني المتدفقة على الجبهة ومحاصرة المحمرة وينسجون روايات كانوا تناقلوها اثناء محاصرتهم من قبل القوات الايرانية ويؤكدون للجميع ان القوات المهاجمة لن تتوقف حتى تدخل البصرة وتحتلها مثلما احتل العراقيون المحمرة وكان الاهالي المدنيون خصوصا سكان مناطق التنومة وشط العرب اكثر المتاثرين بهذه الروايات خصوصا والكثير من مناطقهم
طالها القصف الايراني وقسم وصل حافاتها العتاد الخفيف مما اضطرهم ترك بيوتهم والرحيل نحو العمق لا بل ارتحل الكثير منهم الى منطقة القرنة لوجود اقرباء لهم فيها ولبعدها عن خطوط النار .
مضى على الهجوم تسعة عشر يوما واعلنت ايران رسميا تحرير المحمرة في 19مايس ودخول قطعاتها فيها واسر جميع الضباط والمراتب المحاصرين داخل المدينة بعد استسلامهم من دون قتال وغنمت الكثير من الاسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وسمحوا لمراسلي الصحف ووكالات الانباء بدخول المدينة المحررة ونقل تقاريرهم الصحفية من هناك مما اضطر العراق للاعلان في 22 مايس ببيان مدبج يتحدث عن ظروف الحرب ورغبة العراق بأنهائها وعمل لجنة الوساطة الدولية وتسهيل مهمتها قرر العراق الانسحاب من المحمرة وافساح المجال للجنة الوساطة الدولية بالعمل في وضع مريح وايجابي .
لقد خسر العراق في المحمرة وحدها قرابة اربعين الف عسكري او اكثر بين جندي وضابط وشرطي اذ كانت في المحمرة الكثير من افواج وسرايا شرطة الحدود واستسلم اغلبهم من دون قتال بعد محاصرة المدينة لمدة عشرين يوما والقتال حولها وقريبا منها وكان ضمن الاسرى الكثير من امري الالوية والوحدات مما جعل الجانب الايراني يحرص على اجراء لقاءات اذاعية داخل المدينة امعانا في اذلال الجيش العراقي وتحبيط معنوياته وارسال رسائل واضحة للحكومة العراقية عن ضخامة خسارتها في هذا الهجوم كما قامت الاذاعة الايرانية بتنظيم قوائم باسماء الاسرى وتسلسلهم ووحداتهم وقرائتها على مدار اليوم مما جعل ليس الاهالي فقط يستمعون لتلك الاذاعة وانما حتى الوحدات التي فقد الكثير من جنودها لكي تدرج مآل مصيرهم اليه وكانت البيووت تتناقل الاخبار وكل بيت يرد اسم ابنا او قريبا لهم ضمن الاسرى يحمدون الله ويتبادلون التهاني ولو سرا خوفا من سماع الرفاق ذلك فيخضعون للمسائلة .. وكان مذيع الاذاعة الايرانية ( حجي حسين ) حصل على سمعة عريضة من خلال صياحه وتهريجه في الاذاعة وهو يقابل الاسرى وكانت لازمته الشهيرة عندما يقابل اسيرا ويسأله عن امر وحدته فيجيب الاسير بأنه لايعرف مصيره ولم يراه بين الاسرى عندها يصرخ حجي حسين ( شلع .. كلب .. شالها ) خلا بس ولد الخايبات .. ( اسسا وين يغاتي هو يم الريس يكرمه لو يم مرته .. خل يسمع هذولا جنود الاسلام .. جنود الثورة ) وهكذا عرف العراقيون حجم الخسارة من كثرة اسماء الاسرى التي حوتها قوائم الاذاعة الايرانية او الذين تم مقابلتهم من قبل الاذاعة .
وكان كل جيران زكي الصقوا اسماعهم بالراديو علهم يسمعون زكي تقابله الاذاعة كأسير او تقرأ اسمه ضمن القوائم او يذكره احد الاسرى الاخرين بأن رأه في الاسر .لكن حتى هذا لم يحصل وتسرب اليأس لنفوس الجميع بأن زكي لم يكن اسيرا او في عداد الاحياء الا امه التي اصرت ان زكي لم يمت ولم يقع بالاسر لكنه في ورطة او يعاني من مشكلة كبيرة ورفضت رفضا قاطعا اقامة عزاء لزكي واصرت على مراقبة الباب وانتظار وصوله بين لحظة واخرى .كذلك لم ينقطع بكائها ونحيبها وترديدها ( النواعي ) المؤلمة التي تعلمتها من امها وام امها وقريباتها في حين كان ابو زكي يصلب نفسه ويعدها لسماع اسوء خبر ممكن يسمعه بحياته كلها حتى انه هيأ كل شيء وحدد مكان اقامة العزاء ومن يرسله لاخبار اقاربه وعشيرته وكانت الايام تسير ببطء شديد على الجنود في الجبهة التي بدأت تعود تدريجيا الى وضعها السابق وعلى الاهالي المنتظرين انتهاء الهجوم وفتح الاجازات ليتمكنوا من حساب خسائرهم ومعرفة من وقع بالاسر من ابنائهم ومن مات او جرح حتى قررت القيادة يوم 22 ايار فتح الاجازات لـ(25% ) من المراتب فأزدحم بهم كراج بغداد في ساحة سعد ولم تكفهم كل السيارات الموجودة هناك فأضطر قسم كبير منهم قضاء ليلة الاجازة الاولى في ساحة سعد او في احد فنادق البصرة على قلة مدة الاجازة البالغة خمسة ايام فقط بعد منع استمر لـ(63 ) يوم .
بحثت ام زكي في اوراقه بمساعدة ابنائها عن بعض العناوين التي ربما دونها زكي في تلك الاوراق لجنود من سريته لكي ترسل من يسأله عن زكي عله يكون ضمن وجبة المجازين فلم تجد غير عناوين احسان وجاسم واخر في الموصل ورابع في عين التمر غرب كربلاء مما خيب املها واصابها بالاحباط ..
|