عَنْدَمَا مَاتَتْ بَعْضُ الضَّمَائِرِ, أَقَدمَ التَّغَطْرُسُ عَلَيْنَا، وَلَعِبْتُ بِبَعْضِ النُّفُوسِ الأَطْمَاع وَالأَهْوَاء.
وَغَطَّى الوُجُوه الرياء، وملأت الصُّدُورَ البَغْضَاء, لِتَحُلّ بَيْنَ النَّاسِ شَحْنَاء, فَصَارَتِ الحَيَاةُ ذَمِيمَة شَوْهَاءَ، وَبَعْدَ أَن عَصْفَ اليَأْس بِبِلَادِ الرَّافِدَينِ وَأَصْبَحَ الأُسَى فِي مقلتيها دِمَاءً، وَكَأَنَّ الشَّعْبَ كَالطَّيْرِ هَدَّ جَنَاحِيِّهِ إعْيَاءٌ، وَأَلَم بِجَانِبِيهُ الدَّاء، وَبَاتَ كَالْجَسَدِ المنخور يُدْخِلُهُ مِنْ كُلِّ مَكَانِ هَوَاء وَمَاء.
هَلْ تُرِيدُ مَعْرِفَتَنَا..؟ سَل عَنِ الْعِلْمِ تُجِيبُكَ أَلْوَانُهُ:
حمراء دماؤُنا, بيضاء قَلُوبُنَا, اللهُ أكْبَرُ شِعَارُنَا, خَضْرَاءُ مَرَاقِدُنَا, تَوَشَّحَنَا بِالسَّوَادِ عَلَى شهدَائِنَا.
وَأَقُولُ: رَفْرِفْ عِلْمَ الْعِرَاقِ سَتَبْقَى مُنْتَصِبًا إِنَّ جَاءَ أَعْدَاءٌ وَحُكْم سَاسَة وَذَهَّبُوا، لِغَناكَ اِمْتَدَّتْ يَدٌ تَذُوقُ حَلَاَوَةَ الْعِنَبِ كَسَرْنَاهَا لِنُرْضِيكَ، وَلَكِن مِنْكَ لَا تَقَربُ؛ فَهَبَّ الشَّامِتُونَ لِتَفْرِيقِ رِكَابِ الْمَرْكَبِ، نَخَّرُوا بَعْضَ الْعُقُولِ وَالدَّمْعُ يَنْسَكِبُ، فَنَادَتْ أَمْوَاجُ الرَّافِدَيْنِ: السَّفِينَةُ سَتُثَقَّبُ.
رُبَّانُهَا أَذِنَ اذانَ الْجِهَادِ قَائِلًا: هَبُّوا, تَسَابَقَ الْأَحْرَارُ فِي ساحِ الْوَغَى شَبُّوا, فَذَابَتْ قَلُوبُ جَمِيعِ السَّامِعِينَ إِذْ لَبَّوْا.
شِيعِيُّ وَسَنِيٌّ وَسَائِرِ الْأَطْيَافِ ذَبُّوا , بُورِكَتْ مِنْ حَشْدٍ بِدَعْوَةٍ مِنْ أَبِ.
ذَلِكَ الْأَب هُوَ الْمَرْجِعُ الْأعْلَى سَمَاحَةُ السَّيِّدِ السِّيسْتَانِيِّ الَّذِي أَصَدَرَ فَتْوَاُهُ بِوُجُوبِ الْوجوب الْكِفَائِيِّ، فَكَانَتْ مِنْ نَسَمَاتِ الْعِنَايَةِ الْإلَهِيَّةِ الَّتِي تَحُفُّهَا نَفْحَاتٌ تعبقُ بِرَائِحَتِهَا كُلَّ مُجَاهِدٍ مُخَلصٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى. وَعَلَى إثَرِهَا هَبَّ الْحُلَمَاءُ, بِشُعْلَة ثَائِرٍ وَبِفَتْوَى الْجِهَادِ شَكَّلُوا ألْفَ لِوَاءٍ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، مَرَاجِلَ تُغْلِي دَمًا, ليوثًا لَبَّتِ النِّدَاء..
يَسْتَبِقُونَ الْخُطَى وَيَمُشونَ عَلَى اِسْمِ اللهِ, أَسُودَا تَضَيق بِعُيُونِهِمِ الصَّحْرَاء كَمَا فِي الْبَحْرِ رُبَّان سَفِينَةِ كَفْكَفَ عَزْمهُ مَوْجٌ وَلَا تُخِيفُهُ الْأنْوَاءُ. هُمْ قَادَةُ الْأُمَّةِ فِي ساحِ الْوَغَى، تَهْتِفُ بأسْمَائِهم الْهَيْجَاءُ. يَهْزَؤُونَ بِجُمُوعِ الْأَوْغَادِ وَأَصْوَاتِ التَّفْخِيخِ وَالْاِنْفِجَارَاتِ؛ حَيْثُ اِنْبَرَتْ تَقْتَادُهُمْ حُرِّيَّةٌ حَمْرَاءُ, نُفُوسٌ لَهَا نُورُ الْهُدَى سِيمَاء, وَلِهُمْ فِي الْوَاقِعِ صَفْحَةٌ غِرَاءُ. وَسَيُنَالُونَ مَا نَالَهُ الْأَبْرَارُ وَالشُّهَدَاءُ.
وَبَعْدَ أَنَّ أَضْحَتْ رُبوعُ الْأمَانِيِّ دِثَارًا... كَانُوا فِينَا يُقِيلُونَ العثارا. تَسَلَّلَتِ الشَّجَاعَةُ بِأَفْكَارِهِمْ حَتَّى اصبحت فِي أَذْهَانِ الْمُرْتَابَةِ قَلُوبُهُمْ تَقْدَحُ لَيْلًا شَرَارًا. جَلَّتْ قَوَادِمُهُمْ فَاِرْتَقَوْا يَتَسَابَقُونَ كَالْنَّسْرِ شاواً قِطَارًا, لِطَلِعَتْهُمْ كَانَتِ الْمُقَدَّسَاتُ تَرْجُو اِنْتِظَارًا, فَرَأَيْنَاهُمْ يَوْمَ نِدَاءِ الدِّفَاعِ غَيَارَى عَلَى الْعِدَى وأتباعهم كَانُوا نَارَا, وَصَلَ مَجْدُهُمْ لعنانِ السَّمَاءِ يَطْلَبُ ثارًا. بدمَائِهم شَيَّدُوا الْمَجْدَ دَوْرًا وَعَمَارًا, بِشَهَادَتِهِمْ فَقِدْنَاهُمْ وَلَكِنَّ يُبْقُونَ مَنَارًا, وَوُجُوهَهُمْ فِي التُّرْبَةِ أَنَوَّار تَتَوَارَى, بِسَبَّابَةِ الْمَجْدِ أَوَى إِلَيْهِمِ النَّاسُ طَوْرًا بَعْدَ طورٍ أَشَارَا, حَتَّى بَاتَ لَهُمِ النَّجْمُ فِي الْأُفُقِ جَارًا. حَيَّا فِيهُمْ زَنْدَ الْهُدَى وَسَيُبْقَى لَهُمِ الْمَجْدُ دَارًا.
تَسَابَقَ الشَّبَابُ إِلَى سَاحَاتِ الْوَغَى، وَكَنَّا نَظُنُّ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَلِكُونَ الشَّجَاعَةَ, فَسَطِعَتْ بُطولَاتُهُمْ كَنُورِ الْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي مُنْتَصَفُ اللَّيْلِ الدَّامِسِ, وَبُزُوغ الشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ, بَلْ وَشَاهَدَ ذَلِكَ جَمِيعُ النَّاسِ، حَتَّى أَصَبَّحَتْ عَلَى مَرْأى وَمَسْمَعِ الْعَالَمِ. وَتَسَاقَطَتْ دماؤهم الطَّاهِرَةُ عَلَى تُرْبَةِ هَذَا الْوَطَنِ، حَتَّى تَحَوَّلَتْ كُلُّ بَرَكَةِ دَمٍ إِلَى نَهْرٍ جَارٍ يَصَبُّ فِي بَحْرِ عِشْقِ الْبِلَادِ.
جُنُودٌ وَقَادَةٌ فِي حَشْدِ الْجِهَادِ، لَهُمْ مَنِ الْأُمِّ اثنتان, الْأوْلَى مِنْ أَنَجَبَتْهُمْ وَحَثَّتْهُمْ عَلَى الدِّفَاعِ مِنْ أَجَلْ تُرْبَةَ الْوَطَنِ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ ضَمَّتِهِمْ فِي بَطْنِهَا لِتَحْبُلَ وَتُخْرِجَهُمْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ جَديدٍ, تِلْكَ هِي الْأُمُّ التِي دَافَعُوا عَنْهَا.
وَحَسْبُكَ أَنَّهُ عِنْدَ نَيْلِ أحَدِهِمِ الشَّهَادَةَ تغردُ الطُّيُورُ لِشَهَادَتِهِ وَتُصْفِقُ بِجَنَاحِيهَا لِرَوْحِهِ الطَّاهِرَةِ، وَتُهَلِّلُ السَّمَاءُ بِرَعْدِهَا لِتَبْكِي مَطَرًا عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ الْمُقَدَّسِ, وَتَسْقِي الْأرْضَ الَّتِي فِيهَا يدْفِنُونَ.
هَكَذَا الشَّهِيد بِدِمَاءِ السَّمَاءِ الْبَيْضَاءِ يُغْسَلُ, وَيُكَفَّن بِكُلِّ أرْضِ الْبِلَادِ, وَيَحْزُنُ لِفَقْدِهِ أَغُلْب الْأَحْرَارِ مِنَ الْعِبَادِ.
فِي حَشْدِنَا اِنْقَادَتِ الْأَجْيَالُ الْخَاشِعَةُ لِهَدْي صَاحِبِ الْفَتْوَى حَتَّى تَرَامَتْ فِي فَصَائِلِهِ النَّجْبُ. وَمِنْ أَصْلِ أَبْنَاءِ الْعِرَاقِ الْغَيَارَى تسَارِعُوا لِرُكوبِ سَفِينَةِ الْجِهَادِ حَتَّى ميْز اللُّجُّ مَنْ عَافَوْا وَمَنْ رَكَّبُوا. هُمْ ثُلَّةٌ رَاحُوا يَنْفُضُونَ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا يَدًا, لِيُضْرِبُوا بِهَا الْإِرْهَاب دِفَاعًا عَنِ الْأرْضِ وَالْعَرْضِ. فَلَا نَكْتَفِي بتقبيلِ تِلْكَ الأيدي وَالسَّوَاعِدَ السُّمرَ, بَلْ فِي كُلِّ اِحْتِفَاءٍ نُذَكِّرُ لُيُوثَ الْوَغَى وَلِلْأَجْيَالِ بِطُولَاتِهِمْ نَرْوِي. هُمْ ماضي الْعِرَاقِ وَحَاضِرِهِ الْجَلِيِّ, وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ تَتَجَلَّى صُورَةٌ لَهُمْ بِحَليٍّ. وَثَمَّة رِوَايَةٍ وَقِصَّةٍ، هُنَاكَ رُجَّالٌ فِي اللَّيْلِ وَالنُّهَّارِ يَمْتَشِقُونَ سِلَاَحًا قَبْلَ بِزَوْقِ الصَّبَاحِ وَأَثْنَاء مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ.
صَبَاحَا يَتَسَابَقُونَ قَبْلَ شُرُوقِ الشَّمْسِ عَلَى صَيْدِ مَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهُمْ سَبَلُ الْهِدَايَةِ وَأَطْبَقَتْ سَلَاَسِلُ الشَّيْطَانِ عَلَى افكارهم. فِي الْمُعَارِكِ هُنَاكَ رِوَايَاتٌ لَا يَعِيهَا الْكبارُ وَلَا يَفْهَمُهَا إِلَّا الْحَلِيم.
وَسَتُرْوَى لِلصَّغَارِ ليرمموا بِهَا ذَاكِرَتَهُم الْوَطَنِيَّة. رِوَايَاتُ الْمُوَاجَهَاتِ حَيْثُ تَفْقَعُ الشَّمْسُ الْوُجُوهَ وَتَذْبُلُ الشِّفَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ, فَعَلَى هَدِيرِ صَوْتِ الرَّصَاصِ مَعَ فُقاعَاتِ الْقَنَابِلِ فَوْقَ الرُّؤُوسِ.
هُنَالِكَ رُجَّالٌ يَحْمِلُونَ أَرْوَاحَهُمْ عَلَى أَكُفِّهِمْ, إِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْعُمَرَ كُلَّهُ بَيْنَ راحتيهم. يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَدْرُونَ فِي يَوْمٍ مَا سَيَتَدَاوَلُ رِوَايَاتُهُمْ وَقُصَصُهُمِ الصغارُ وَالكبارُ, وَتَتَحَوَّلُ إِلَى حِكَايَاتٍ شَعْبِيَّةٍ تَتَنَاقَلُهَا الْأَلْسَنُ بِلَا كَلَلٍ أَوْ مَلَلٌ.. هِي تِلْكَ الْأَسَاطيرُ الدَّامِغَةُ فِي الذَّاكِرَةِ الْوَطَنِيَّةِ. هِي دِمَاءٌ طَاهِرَةٌ كَأَنَّهَا سيلُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ جَارٍ تَتَغَذَّى مِنْهُ الْأَجْيَالُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ. لَهُمْ فِي كُلَّ رُكَامِ قِصَّة وَرِوَايَة, فِي كُلِّ اِشْتِبَاكٍ أَلف حِكَايَة.
إِنَّهَا لَيْسَتْ أحلامًا وَخَيَالًا فِي بِقَاعِ جُغْرَافِيَّةِ الْعِرَاقِ, بَلْ وَاقِعًا, يَحْمِلُ إِلَيْنَا مُشَاهِدَ الْحَقِيقَةِ.
ثَمَّة مُشَاهِد انسانية تُرَافِقُ الْبُطولَة حَيْثُ تَحْرِير الْعَوَائِلِ مِنَ الْأَسْرِ وَالْمُعَانَاةِ وَتَقْديم الْاِحْتِيَاجَاتِ الْغِذَائِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ إِلَيْهِمْ وَنَقلهمْ إِلَى مَنَاطِق آمنة. نعم تَنقلُ الْعَوَائِل نِسَاءً وَكبارًا واطفالاً مِن بَيْنَ الرُّكَامِ والجثث، وداعش يُطْلِقُ عَلَيْهُمِ الرَّصَاصَ.
عَنْدَمَا يُحَرِّرُونَ كُلَّ بُقْعَةٍ تَتَحَوَّلُ مُشَاهِدُ الرُّعْبِ عِنْدَ الْأَطْفَالِ إِلَى اِسْتِغَاثَةٍ فَيَقُولُونَ لِلْحَشْدِ: أَنْتُمْ حَمَاةُ الْوَطَنِ يَا أَجْمَلَ صُورَةٍ, فَأَنْتُمْ مَنْ تُرِيدُونَنَا أَنَّ نُمَارِس الطُّفُولَةَ.
دَاعِش مَسْحَ الْحَيَاة عَنِ الْوُجُوهِ حَيْثُ قَطَفُوا آلَاَفَ الْأَطْفَالِ قَبْلَ أَنْ يَيْنَعُوا فَذَبَحُوا طُفُولَتَهُمْ.
وَلِذَلِكَ قَابلهم الْحَشْد الْمُقَدَّس لِيَشِنّ عَلَى دَاعِش التَّكْفير حَرِب الْأشْبَاحِ.
إِنَّهَا حَرْبُ الْأشْبَاحِ حَيْثُ يُفَاجِئُوا الْإِرْهَابَ قَبْلَ أَنْ يُبْصِرهُمْ.
بِتَكْتِيكِ عَالِيِّ الدِّقَّةِ وَضعُوا دَاعِش مَا بَيْنَ كَمَائِنَ وَاِشْتِبَاك حَتى عَجِزُوا وَفروا مِنَ الْمُوَاجَهَةِ.
أَيَّهَا الْحَشْدُ الْمُقَدَّسُ..
|