هناك آفة تسمى الاستحسان في الدين والشرع تصيب البعض من حيث يشعر او لا يشعر، فما ان تخطر في باله فكره حكّمها مباشرة، وصار يفسر على هواه، بلا تأمل ولا سؤال من اهل الاختصاص بل يقتحم ويسوِّق مباشرة، ليتلاقفها البعض في النشر كمسلمة من المسلمات.
ومما شوهد في ذلك هو انتشار منشورات تتحدث عن الفرق بين الصوم والصيام، يدّعى فيها ان لفظة (الصوم) يختص معناها في الامساك او الامتناع عن الكلام، ولا تعني المعنى الشرعي من الامساك عن المفطرات المعروفة من الاكل والشرب وغيرها وانما هذا تدل عليه كلمة (الصيام)، و(دليلهم) ان القرآن الكريم استخدم ذلك في موضعيهما.
وهذا استحسان واختراع يجعل من اللادليل دليلا !!!
والجواب
١- ان الاستعمال في شيء في مكان محدود لا يدل لوحده على عدم الاستعمال في شيء اخر مطلقاً.
فكون ان القرآن استخدم كلمة الصوم في الامتناع عن الكلام، كما في الحكاية عن لسان مريم عليها السلام: "...إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا" فهذا لا يدل بالضرورة على اختصاص الكلمة بهذا المعنى " غايته ان القران استعمله في هذا المعنى، فيجب مراجعة باقي نصوص المنظومة الدينية من السنة الشريفة، وكذلك مراجعة كلام العرب في ذلك حتى نستوضح الامر.
٢- ان من يطرح ذلك لا يذكر في اي مجال يتكلم هل في الاصطلاح اللغوي ام في الشرعي ام انه لا يميز بينهما؟!!! فيجب التفريق .
٣- اما في الاصطلاح الشرعي فلا فرق بين الصوم والصيام فكلاهما بمعنى واحد وهو ترك المفطرات المنصوص عليها في الفقه كالاكل والشرب وغيرهما.
فقد وردت الاحاديث والروايات عن النبي والائمة (عليهم السلام) بذكر الصوم بمعنى الامتناع عن المفطرات، وهي بالعشرات مضافا الى تعبير العلماء بمصنفاتهم على مر العصور ومن هذه الشواهد:
🔸عن امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، الخطبة 110:
"إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الاسلام، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة. وإقام الصلاة فإنها الملة. وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة. وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب."
🔸ومن دعاء السجاد (عليه السلام) في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان كما في الصحيفة السجادية
"يا مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل ...
أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تنزل علينا من السماء رحمتك، وإن تقبل صومنا وصلاتنا وقيامنا وعبادتنا وشكرنا واجعلنا لأنعمك من الشاكرين."
🔸عن الباقر(عليه السلام) في الكافي ج2 ص24 :
"ألا أخبرك بالاسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك قال: أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير؟ قلت: نعم جعلت فداك قال: الصوم جنة من النار، ..."
🔸عن الصادق (عليه السلام) في الكافي ج1 ص 57:
"إن السنة لا تقاس ألا ترى أن امرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها يا أبان! إن السنة إذا قيست محق الدين."
🔸عن الصادق(عليه السلام) في الكافي ج4 ص 64 :
"من كتم صومه قال الله عز وجل لملائكته: عبدي استجار من عذابي فأجيروه و وكل الله تعالى ملائكته بالدعاء للصائمين ولم يأمرهم بالدعاء لاحد إلا استجاب لهم فيه."
🔸عن الرضا(عليه السلام) في الكافي ج2 ص55 :
"ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل."
وهناك شواهد ذكر بهما اللفظان بنفس المعنى، منها:
🔸من دعاء السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان كما في الصحيفة السجادية:
"الحمد لله الذي أعاننا على صيام شهر رمضان وقيامه، ونحن نسأل الله خير مسؤول وأكرم مأمول أن يستجيب دعاءنا، ويقبل منا صومنا ويزكي أعمالنا، ويشكر سعينا، ولا يردنا خائبين، وأن يجعلنا عنده من المقبولين، وفي الآخرة من الفائزين، إنه هو أرحم الراحمين."
🔸عن الصادق (عليه السلام) في الكافي ج2 ص 104:
"لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة."
٤- اما في الاصطلاح اللغوي فلم يقل احد ان كلمة الصوم تختص بالامتناع او الامساك عن الكلام فيما ذكرته اهم معاجم اللغة فبعض ذكره بوصف عام وهو الامتناع فينطبق على المصطلح الشرعي وغيره، وبعضهم صرح بانه لغة يشمل الامتناع عن الاكل والشرب والكلام، وغيرها ايضا كما سنلاحظ في استعراض عدد من اقوال اللغويين:
🔸قال صاحب كتاب (لسان العرب) ج12، ص350 :
"صوم: الصوم: ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، صام يصوم صوما وصياما..."
🔸قال صاحب كتاب (تاج العروس) ج17، ص423 :
"[صوم]: صام صوما وصياما، بالكسر، واصطام: إذا أمسك هذا أصل اللغة في الصوم. وفي الشرع: عن الطعام والشراب.
ومن المجاز: صام عن الكلام: إذا أمسك عنه. وبه فسر قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا بدليل قوله: (فلن أكلم اليوم إنسيا).
وصام عن النكاح: تركه. وهو أيضا داخل في حد الصوم الشرعي..."
🔸قال صاحب كتاب (معجم مقاييس اللغة) ج3، ص 323 :
"(صوم) الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان من ذلك صوم الصائم هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما منعه ويكون الإمساك عن الكلام صوما قالوا في قوله تعالى * (إني ندرت للرحمن صوما) * إنه الإمساك عن الكلام والصمت"
🔸قال ابو الهلال العسكري، في (الفروق اللغوية) ص 325 :
"الفرق بين الصيام والصوم: قد يفرق بينهما بأن الصيام هو الكف عن المفطرات مع النية، ويرشد إليه قوله تعالى: ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ).
والصوم: هو الكف عن المفطرات، والكلام كما كان في الشرائع السابقة، وإليه يشير قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " . حيث رتب عدم التكلم على نذر الصوم."
🔸قال الخليل في (معجم العين) ج7، ص171 :
"الصوم: ترك الأكل وترك الكلام..."
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.
وأسألكم الدعاء
|