• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ذكرى الشهادة والذاكرين .
                          • الكاتب : الشيخ الدكتور محمد جعفر شمس الدين .

ذكرى الشهادة والذاكرين

لطالما وجد المصلحون في الذكرى، حافزاً لهم على المضي فيما نذروا أنفسهم له من إصلاح إذا قعد بهم العجز، واستبد بهم الوهن، وتألبت عليه صروف الدهر، فتمنحهم من روحها قوة يدفعون بها العجز، وضياء يدرأون به الوهن، وإنكار للذات يسهل عليهم صروف الدهر.

وهي مهما أوغل الزمن، واختلف الموطن، وتقلبت شؤون الحياة، صلة الماضي بالحاضر، وتراث السلف للخلف، ومشعل ينير سبيل الحق وسنة الرشد، ويبتعث الحرارة في النفوس فيعيدها خلقاً جديداً، استجمع ما ينبغي أن يستجمعه من وسائل الرقي، ووعي ما ينبغي أن يعيه من مُثل الخير وقيم الإنسانية العليا.

ومن هنا ندرك السبب الذي حدا بالناس إلى إحياء ذكر الحوادث التي سموا بها إلى القمة، وأرتفعوا بها إلى الذروة، وذكر الرجال الذين بثوا في أممهم ما استطاعت به أن تتبوأ منزلة أعلى وتحتل مقاماً أسمى، فذكريات الأمة، رصيدها الروحي العظيم الذي يتقزم أمامه الرصيد المادي في الخزائن وبيوت المال، فحريٌ بالأمة الواعية لرسالتها، أن تستغل هذه الذكريات على وجهها، فتبث في افرادها روح العزم والمضاء والإيمان.
فلنسأل أنفسنا: كيف نحيا ذكرياتنا؟
نعم، إننا نحياها في جو من سحر الشعر وروعة النثر، ولكن دون أن يؤثر ذلك في تغيير شيء مما يعانيه المجتمع الإسلامي المتراحب من انتكاس أليم تناول أوضاعه الروحية والاجتماعية والسياسية كافة، بما تنطوي عليه من مثل الاخلاق والدين، ولئن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على أننا فقدنا الصلة بماضينا فلم تعد ذكرياته المجيدة تعمل فينا عملها الذ ي يسرت له.
لقد كانت هذه الذكريات بالنسبة لأمتنا في عصورها الأولى بمثابة صمامات أمان ونقاط مراقبة، تحاول أن تصحح على ضوء ما تنطوي عليه من قيم ومثل ما يكون قد أصابها في مسيرتها من انحراف عن الخط القويم ، أو تُجدد ما يكون قد فسد أو تحلل من خلاياها – وأعني هنا الامة بلحاظ الافراد – مستعينة بما تنطوي عليه شخصيات أصحابها من معان خيرة وخصال حميدة.
وهنا يقفز الى أذهاننا سؤال:
ما هو السبب الذي جعل مفهوم الذكرى عندنا لا ينفذ الى عقولنا وإنما هو طافٍ أبداً على السطح لا يتعدى الأسماع، وبالتالي لا يتحول إلى طاقة شعورية تعمل فينا أو تغيّر من واقعنا شيئاً؟ أن السبب في نظري – يا سادة – فرديتنا، والفردية كموقف نفسي خاص لا بد أن تكون لنشوئها اسباب، فما هي الأسباب لنشوء فرديتنا؟
إن الفردية في جوهرها ليست سوى شعور ملحّ بالذات، يستتبع ضعف الشعور بالموجودات الاخرى أو ضمور هذا الشعور، أما السبب في تغلب الشعور بالذات على الشعور بالموجودات الاخرى، فهو عبارة عن الفصل بين النشاط الإنساني الغريزي وبين الرقيب الذي يحدد المدى الذي يصل إليه هذا النشاط.
فالنشاط الإنساني غريزي في أكثر مظاهره، وليست الغرائز غايات في ذاتها عند الإنسان بحيث ينحصر تفكيره وتقديره في السعي لإشباعها، وإنما أودعها الله فينا وسائل إلى غايات خارجة عنها أعلى منها، هذه الغرائز تحكم الإنسان بمقدرا فيما لو كان واعياً لوظيفتها، ووعاياً لغاية حياته العليا، وهو لا يكون واجداً لهذا الوعي، إلا إذا كان واجداً لذلك الرقيب الذي يحدد نشاط هذه الغرائز، هذا الرقيب هو العنصر الاخلاقي في نفس الفرد المؤلف من مجموعة القيم الاخلاقية والاجتماعية، التي تنظم النشاط الإنساني، وتقف به عند حدوده المشروعة التي تيسر التوازن الاجتماعي، وتمنع من أن يصير الكيان إلى التفسخ والانحلال.
وهي تحكم الإنسان مطلقاً حين ينعدم فيه العنصر الاخلاقي، حيث ينطلق النشاط الإنساني الغريزي من غير رقيب، وهنا ينقلب الإنسان فردياً، فإن شلّ العنصر الأخلاقي عن العمل، يعني إطلاق مجال العمل في الحياة للغرائز فقط، ومتى استقلت غرائز الإنسان في العمل ألحّت عليه بطلب الإشباع، فيشتدّ لذلك إحساسه بنفسه، ويتبع ذلك ضعف الشعور بالموجودات الأخرى، إذا استوى وجود الإنسان مع هذه الحال كان إنساناً فردياً.
والدين هو منبع القيم الإنسانية جميعاً، فقد جاءت الأديان السماوية المنزلة لتحصر الفرد الإنسان في مجال القيم، ولتوفر في نفسه العنصر الأخلاقي المثالي، فتحول بذلك بين الإنسانية وبين أن تتفسخ، ونيقلب فيها مفهومها السمح إلى غريزة ذئبيّة تعتدي وتنتهز وتستغل ولا تقيم وزناً لغير الغرائز الحيوانية.
وإذا كان منبع القيم الإنسانية جميعاً هو الدين، فقد تبيّنت لنا إذن طبيعة ما يعانيه مجتمعنا من فردية، فبعد أن كفر الإنسان بالدين وإله الغريزة، تجاوز الحدود التي رسمتها القيم، وفصل بذلك بين النشاط الغريزي للإنسان، وبين الرقيب الذاتي الذي يحدد له مداه الذي لا يحسن أن يتعداه.
ومن هنا أصبحنا لا ننظر إلى ذكرياتنا المجيدة – وهي العلامات المميزة على طريق كفاحنا العقيدي الطويل – إلا من خلال المنظار الذي تمليه علينا غرائزنا، فيرى فيها البعض مجالاً للتسلية وقتل الوقت، بينما يرى فيها أخر فرصة مؤاتية لنيل مكسب شخصي أو غرض مصلحي، وقد ترى فيها السلطة الحاكمة في بلد ما مسارب أمان تجهض عن طريقها عاصفة بدت نذرها في أفق أمة فتمسخها إلى عاصفة في فنجان.
وقليلٌ هم اولئك الذي يحسون الجوانب المشرقة من تلك الذكريات التي يكون الالتفات إليها من قبل القائمين على إحيائها الغرض الأساسي من إقامتهم لها.
والذكرى التي نتفيأ ظلالها اليوم كفيلة بما تحمله بين ثناياها العطرة من المعاني العظيمة فيما لو تمثلناها في حياتنا وسلوكنا أن تنير لنا طريق الهدى وسبل الخير.
تلك هي ذكرى ربيع الشهادة، ذكرى سيد الشهداء وسيد الاحرار وسيد شباب اهل الجنة، فانتفاضة الحسين بما رسمته للثورة من أهداف إنسانية عامة ومعالم تغييرية كبرى، كفيلة بإبعاد الأمة عن أن تكون قطيعاً ينساق وراء أي تحرك رفع شعار الثورة وشعار:
"ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً".
وهي، بما كشتفه من زيف الحكم وطغيانه كفيلة بأن تجعل أي فرد في الأمة واعياً لمسؤوليته في التصدي لأي انحراف، فيتحرك للقضاء عليه قبل استفحاله.
"ألا ترون إلى الدنيا قد أدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس مرعى وبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا ينتهى عنه؟"
وهي بما رسمته للحكام من حدود، وما اشترطته فيه من شروط كفيلة بأن تعدل من انحراف هؤلاء وأولئك من الحكام وتعيدهم إلى حظيرة الحق.
"فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط الدائن بالحق الحابس نفسه على ذات الله".
وهي أيضا، بما أعطته للموت في سبيل الذود عن العقيدة من معنى الخلود والبقاء، وللحياة في ظل الباطل والذل والخنوع كفيلة بأن تجعل كل واحد منا يستمرئ الموت بشرف وكرامة وإباء على الحياة مع المسكنة والهوان تحت ظلال أسنة الظلم وحراب الطغيان.
"فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".
نعم من أجل تحقيق كل ما ذكرت كانت انتفاضة كربلاء، انتفاضةٌ كل فصل من فصولها يوحي بالخلود.
توّجَها فصلٌ، كان بطله رأس شريف على سنان رمح طويل يتلو قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).
يجلجل في أعماق الزمن، وتتجاوب لدويّه جنبات البيد، فيترنم به كل من خفقت في قلبه نسمة من الحرية، وطاف به طائف من نور.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=163405
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 01 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18