عرفت الموازنة في تاريخ النقد العربي على أنها المفاضلة بين كاتبين أو شاعرين أو عملين أدبيين او أكثر للوصول الى حكم نقدي( ).
والموازنة باب واسع في النقد العربي القديم, اهتم به النقاد عبر العصور الأدبية, ويعد الإمام علي(عليه السلام) من أوائل النقاد الذين أسسوا لهذا المنهج النقدي, فقد وضع الإمامُ البذرة الأولى له، فقد روى ابو الفرج الأصفهاني خبراً عن أمير المؤمنين علي بن أبي(عليه السلام) وقد اختصم الناس ذات ليلة إليه في مسألة أي الشعراء أحسن؟ فقال:
(كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم زمان واحد, وغاية واحدة, ومذهب واحد في القول, لعلمنا أيّهم أسبق الى ذلك)( ).
أما ابن رشيق القيرواني، فقد أورد نفس مضمون هذه الرواية في قوله:
(حُكي عن علي بن أبي طالب(كرّم اللهُ وجهه) أنه قال: لو أن الشعراء المتقدمين ضمّهم زمان واحد، ونُصبت لهم راية فجروا معاً علمنا من السابق منهم, وإذ لم يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة, فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي, قيل: ولِمَ؟ قال: لأني رايته أحسنهم نادرة, وأسبقهم بادرة)( ).
على الرغم من الاختلاف في ألفاظ الروايتين، إلا أن المضمون يكاد يكون متطابقاً، إذ أن مثل هذه الموازنة الرائدة قياساً الى الوقت الذي قيلت فيه, تكشف عن أن الإمام علياً(عليه السلام) بنى موازنته على أسس ومبادئ, صارت فيما بعد شرطاً من شروط الموازنة النقدية الناجحة.
لقد كان معيار الزمن حاضراً في موازنة الإمام، ولاشك في أن هذا المعيار مهم جدا لنجاح الموازنة، خاصة إذا علمنا أن الإبداع الشعري يتأثر كثيراً بالزمان, إذ أن إنتاج الشعراء يتفاوت من زمن الى آخر، وذلك حسب الظروف المحيطة بالشاعر.
أما المسألة الثانية التي أشار إليها الإمام(عليه السلام)، فهي الغاية الواحدة، وهذا الحديث قريب من حديثه عن المعنى، فقد استأثر المعنى الشعري بعناية الناقد، وهو يوازن بين الشعراء أو بين نصوصهم الشعرية، ويكاد يكون المعنى هو المعيار الأول الذي وضعه الإمام وهو يوازن بين هؤلاء الشعراء. أما عن طبيعة المعنى المراد، فلم يفصل الإمام القول فيه, إنما حصل التفصيل فيما بعد, وصار النقاد يفضلون المعنى التام البليغ، وحكموا له بالأفضلية والجودة.
أما المعيار الآخر الذي أشار اليه الإمام فهو (المذهب الواحد)، ويبدو أن المقصود منه هو الغرض الشعري, أي أن الموازنة تحتاج الى أن يكون الغرض الشعري واحداً, وهنا تكمن قدرة الشاعر وبراعته في التصرف في هذه الفنون الشعرية, إذ يقدم الشاعر لتعدد أغراضه الشعرية, شرط أن يراعي الشاعر معيار الجودة, وإشارة الإمام وتفضيله لامرئ القيس ربما لكونه أجاد في فنون متنوعة خلافاً لغيره من الشعراء.
وفي ختام موازنته، أصدر الإمام حكماً بتفضيل أمرئ ألقيس على غيره؛ معللاً ذلك بالاستناد الى معيار السبق، والمقصود به الاختراع والابتداع في الشعر.
ومن الجدير بالذكر أن الإمام علياً(عليه السلام) أشار ضمنا الى صعوبة الموازنة, وربما يعود السبب في ذلك الى تقارب الشعراء في ذلك الوقت, وهذه الصعوبة في إصدار الحكم ظهرت فيما بعد عند أشهر النقاد وهو الآمدي في كتابه (الموازنة)( ).
وفي الختام أودّ القول: إن موازنة الإمام علي(عليه السلام) كشفت عن امتلاكه ذوقاً سليماً؛ لأن الذوق ضرورة ملحّة يجب توافرها عند الموازنة، فهو يساعد على التمييز بين الحسن والرديء.
|