لبيك ياحسين... لبيك ياحسين، تعالت هذه الهتافات من اصوات الرجال فجأة، فشخصت الانظار صوب مصدر الصوت، ونهضت الجموع من سباتها الطويل، وحلقت تهمهم وجلة مما يدور.
في مدخل الرواق الشريف، بانت معالم الرجال وهدير انشودة الحياة ما يزال يرتفع في الافاق كل حين، ولولت النساء، وحمحمت الحناجر اسفا على فلذات القلوب، صمت الجمع لحظات، وانهارت انهار الدموع، حمل الرجال جنازة الشهيد متشحة بعلم الوطن العزيز، وقد سكنت الانفاس، واطبق الصمت الرهيب.
في مدينة الفردوس وفي جنة الدنيا تلألأت الاضواء والألوان، والتمعت الثريا بانعكاساتها البلورية الجميلة، كان الطابور طويلا، والزحام كبيرا، والتراتيل تتدفق من الصدور بحرقة الملهوف وجمع النسوة في ازدياد ملحوظ.
وانا بين ذلك الجمع تأخذني العبرات كلما لاح لي شباك القدس والملكوت، وتحركني تيارات الدفع يمينا ويسارا، وتشدني النظرات كلما تقدمت نحو صاحب البذل والجود، حتى غادرني الزمن، وفارقتني الساعات، وعشت في تلك الدقائق لحظات شوق وشغف فريد، وهامت بي الذكريات مع كل خطوة اقترب فيها من ذلك الضريح المنشود.
كأن يوم الطف يعيد انفاسه من جديد في ناظري، اراه ماثلا بكل تفصيلاته المريرة ووقائعه الحزينة وتضحياته الجسيمة، كان الطابور يترنح كل حين فيزداد التدافع من خلفي شيئا فشيئا، حتى كنت اميل مع الجموع واترنح، وقد انفصلت عن لحظتي الانية تلك.
وراحت الاحداث تتجسد امامي بكل عنفوانها، وتتقافز الصور على عظم مأساتها، شعرت بضيق في صدري اثر ذلك التزاحم، لكن عيوني الشاخصة نحوه تستمد العزم والتحدي من رمز البطولة والصمود.
علا صراخ احدى النساء، وهي تستنجد وتستغيث في طابور الشوق والرجاء، وابتلت الوجوه خشوعا ودموعا، احسست بالقشعريرة تدب في اوصال جسدي وتزاحمني ذكريات الطف الشريفة، وكأن هاتفا يهز كياني يصيح بصوت رحيم رخيم: ألا من ناصر ينصرنا، ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله..؟!
وتعالى غبار المعركة المقدسة، واشتد الوطيس وصوت الفواطم يئن بالنحيب، والأرض ملأى بالأجساد المطهرة طريحة الموت الشريف، كنت ابصر ما لا تبصره العيون الاخرى، وترتسم في مقلتي صور الرفض والإباء بأبهى ما تكون، وما زال الصوت يعصف في كل ذرة من جسدي، وهو يعود من جديد ليمزق اسماع الطواغيت والجبابرة على مر العصور.
بين الشباك ويدي مسافة قصيرة، لكن الجموع تتزاحم وتشتد، فأهيم بيدي اود مسك الشباك بكل قوة وعزيمة، لكن سرعان ما يفلت التدافع تلك الامنية، وفي كل مرة احاول جاهدة ورغبتي الملحة تغلب عليه، وتتقاذفني امواج الطابور بعيدا عنه، وفي الجانب الاخر للضريح المقدس تعالى صوت الرجال من جديد مزمجرا بكل قوة: هيهات من الذلة، هيهات من الذلة.
فاحت رائحة الشهادة وانتشر عبق المسك والكافور وزفاف اخر يدور بين الجموع، وما زالت الصور تنعكس مع انعكاسات الثريا في فضاء القدس والطهاره، وبتلك اللحظة العصيبة ترنم الطابور، وانفلت نحو الشباك بكل مهارة فأصبت هدفي، وأمسكت به ودموعي تسبقني وصوتي يتحشرج في صدري مناديا: السلام عليك يا باب الله الذي منه يؤتى، السلام عليك يا سليل العترة المطهرة.
وحالما لثمت الشباك وتمسكت بالعروة الوثقى تطايرت أفكاري، وارتحلت الى رحاب يوم النصر العظيم لترتسم مواقف يوم عاشوراء من جديد، ووقفة اخرى لمحي الشريعة حينما بذل مهجته ونفسه الزكية فداء لحفظ دين الله من العوج والضلالة، وقد تفطرت شفتاه الشريفة من الظمأ، وتيبس لسانه دون ان يمنحه الاوغاد شربة ماء.
اي ظليمة ظليمتك سيدي يا ابا عبد الله، اي جريمة اقترفت بحقك وبحق آل بيتك الاطهار، لذا لك هذا الخلود.. لذا هوت صوبك الارواح والنفوس.. ولذا صرت قبلة الاحرار، ومعقل للثوار على مدى السنين والأعوام، بينما كنت اتمتم بكلماتي تلك هوى على راسي عود من احدى خادمات الحرم الشريف تأمرني بالابتعاد وفسح المجال لغيري من النساء، علمت بأني سأفارق جنة الخلد.
تمسكت مرة اخرى بشدة وتحملت انواع الضغوط وانا اردد في لحظة خشوع: استودعك الله سيدي ابا الاحرار، لعن الله امة ظلمتك ومنعت عنك ماء الفرات، لعن الله امة اسست اساس الظلم والجور عليكم اهل البيت، السلام عليك ما بقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك.
عدت ادراجي الى خارج الحرم المطهر لسيد الشهداء، فاستقبلتني الحمائم في باحة الصحن الشريف وراحت تصفق بجناحيها حولي بشكل غير معهود، نظرت اليها وعيناي مغرورقة بالدموع بينما تعالى صوت من بعيد اخترق سمعي من جديد لهتاف بعض الرجال وهم ينشدون نشيد الحرية التليد: لبيك ياحسين، لبيك ياحسين، لبيك ياحسين.
|