الأنظمة التي تقوم بصورة مباشرة جداً أو حصراً على القوة هي أنظمة غير مستقرة في صميمها، رغم أنها يمكن، بثمن باهظ اقتصادياً واجتماعياً، أن تستمر لبعض الوقت، لكن بالنسبة الى ظهور الأشكال الاجتماعية المستقرة نسبياً واستمرارها، فإنه لا بدّ من أن يكون هناك نسبة من الأفراد في المجتمع توصلوا الى الاعتقاد بأن القوة التي يحتمل أن تكون قاهرة والممارسة التي تمارسها السلطة هي أخلاقية ومشروعة؛ بذلك يطور قدر جيد من الأفراد إحساساً بالتلاحم الطوعي أو الولاء للدولة، ويعبّرون بفعلهم ذلك عن شكل ما من أشكال الهوية الاجتماعية.
تنقسم المجتمعات الحديثة كلها انقسامات اجتماعية مختلفة: فتعقيدات العرقية، الطائفية، موقع الأقلية، التماسك الطبقي الاجتماعي كلها تتراكب مع قضايا ولاء المواطنين النهائي للدولة الذي يشتمل على خضوع لتوجيهاتها الاجتماعية المنظمة ولجهازها الإداري.
على المرء الباحث أو القارئ لأية دراسة نفسية، ثقافية.. أن يتفحص ضمن سياقها الاجتماعي المحدد، كيف تظهر الاهتمامات بالسلوك الأخلاقي الواجب أو الالتزام في الفكر والوعي؛ بل الأكثر أهمية هو أن يتفحص كيف وفي أي سياق محدد يصبح أي اعتراف بالسلطة مرتبطاً بإضفاء الصبغة الذاتية على الكبح الاجتماعي، أو على العكس الانكفاء داخلياً في حالة استلاب، ومن الممكن التعبير عن ذلك بالتوجه خارجياً في أنماط من السلوك المنحرف الشاذ، بما في ذلك ذو الطبيعة السياسية أو الإجرامية.
خطيئة الكثير من المنظرين الاجتماعيين زعمهم أن الصراع السياسي، حتى السلوك المنحرف، غالباً ما يكون مدفوعاً بدوافع راشدة عقلانية، فأشكال الانقسام السياسي أو مختلف أنواع ما يُدعى بالسلوك الشاذ ليست كلها متساوية نفسياً وداخلياً، إذ أن التغيرات التي تحدث أثناء النمو والتي تحكم دوافع الإنسان وما ينتج عن ذلك من سلوك هي أكثر تعقيداً بكثير؛ فالإحساس الذاتي بالاستلاب إنما ينجم عن تجارب على مختلف صعد النضج الإنساني.
في أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين أطلق سراحهم من معسكرات عزلهم، تحرك (17) ألف ياباني بوحدات عائلية الى مساكن رخيصة سيئة أتيحت لهم ضمن مناطق الجنوح العالي لمدينة شيكاغو، حيث كان سكان هذه المناطق قد خضعوا لدراسات متعمقة من قبل علماء نفس واجتماع في جامعة شيكاغو ومعهد أبحاث الشباب الذي تديره الدولة.
لقد تنبأ هؤلاء - استناداً الى دراساتهم السابقة عن آثار هذه الحالة داخل المدن على فئات سكانية أخرى - بأن يُصاب أولئك اليابانيون بالتحطم على الصعيد الشخصي والعائلي وبمختلف الأشكال الأخرى للاستلاب الاجتماعي؛ نظرا لأن إطلاق سراحهم تم بسرعة من مخيمات العزل الحكومية. لكن، بالنسبة للدارس، فأن الأمريكان - اليابانيين القادمين، وجد أن أداءهم لم يكن سلبياً كما يتوقع من أفراد أقلية تواجه تمييزاً قوياً ومستمراً وتعيش في مناطق انحلال مديني؛ فهم لم يخضعوا للأشكال المعتادة من التعصب، بل كانوا قد اقتلعوا من منازلهم في الساحل الغربي الأمريكي من قبل حكومتهم، ووضعوا في معسكرات خاصة لسنوات عدة، مع ذلك لم يتصرفوا كما توقعت التكهنات، لماذا كان الأطفال والشبان اليابانيون - خلافا للأقليات الأخرى الساكنة في منطقة الانتقال هذه في شيكاغو - يعملون جيداً في المدرسة، كان كبار السن منهم يجدون بشكل من الأشكال أعمالاً لهم، ويتقدمون في المهن المتخصصة؟ لقد تجاوزوا النفور، كانوا عمالاً شديدي الكفاءة، سرعان ما صار أرباب العمل يبحثون عنهم بدلاً من أن يرفضوهم.
أعتقد، الفرد العراقي تعرّض طوال حياته الاجتماعية على هذه الأرض، أكثر من غيره، الى ألوان كثيرة من الحرمان والاضطهاد والحروب والحصارات، ولايزال... لكن، لو تتبعنا جغرافية مسيرة مواطنية هذا الفرد، الولاء والانتماء، لا يبعد عن العراق، الوطن والأرض والشعب واللغة والنهر.. وصولاً الى الأكلات والعادات.. إلى آخره.
اكتسبت شخصيته صلابة ومنعة مما جعله مرحباً فيه أينما حل، بخلاف الكثير من الجاليات التي بضمنها عربية؛ أبدع في مجالات لا تعد ولا تحصى، معطاء لا يمل.. كذلك، يبدع في المجال والتخصص الذي يشغله، ويبحث عن التفوق في المجالات الأُخَر.
يأخذ معه، دينه وطائفته وقوميته وساعده وعقله، وعاداته وتقاليده، يجوب الأقطار، لكن، لا تصهره الثقافات والانتماءات الجديدة، إنه يتأقلم!. إن عينه على العراق ولو بعد عقود من السنين، يعود وهو يحمل اللهجة والحنين والطبائع ذاتها التي غادرها مرغماً.. لم تغيّره النظريات التي تبرهن على التغير.. يبقى بشخصيته العراقية، إنه بحاله متفرد، وما ذلك إلا لقوة هويته الاجتماعية التي تتغلب على التفاصيل الجزئية.
|