• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 16 ) تحليل حادثة ابقاء بنيامين .
                          • الكاتب : السيد عبد الستار الجابري .

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 16 ) تحليل حادثة ابقاء بنيامين

مرت بنا اشكاليتان الاولى كيف يجوز ابقاء بنيامين في مصر مع ما فيه من ايذاء لقلب يعقوب (عليه السلام) هذا الايلام والايذاء المركب من امرين الاول ابعاد بنيامين والثاني اتهام سليل النبوة بالسرقة، والثاني موقف يعقوب (عليه السلام) من بنيه وقوله لهم بل سولت لكم انفسكم امراً.
ويمكن الاجابة عن الاشكال الاول، بأن ابعاد بنيامين عن يعقوب (عليه السلام) لم يسبب الماً اضافياً له، ذلك لان ما ورد في الآيات الكريمة يشير الى ان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم ان بنيامين لن يعود اليه، فهو (عليه السلام) اخذ من ابنائه موثقاً من الله ان يعيدوه اليه الا ان يحاط بهم، وهذا القيد وهو قيد الا ان يحاط بهم يشعر ان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم انه سوف يحاط بهم وان بنيامين سيؤخذ منهم ولن يستطيعوا الدفاع عنه، والا فإن مشكلة يعقوب (عليه السلام) مع ابنائه في قصة يوسف (عليه السلام) كانت تتمحور في كيد ابنائه لاخيهم:
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ 
 وهو ما قرره الكتاب العزيز في قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ 
ومن هنا يتضح الفرق بين الموقفين فابناء يعقوب (عليه السلام) كان هم من كاد ليوسف (عليه السلام) وحاول الاضرار به، ويعقوب (عليه السلام) على علم بذلك، اما في مورد بنيامين (عليه السلام) فكان يعقوب يعلم ان الكيد لم يكن كيد اخوته بل كانت الارادة الالهية التي اجراها الرب على يد يوسف (عليه السلام) للشروع في رحلة الانفراج وانتهاء فترة البعد بين يعقوب ويوسف (عليهما السلام).
 فحزن يعقوب (عليه السلام) على يوسف (عليه السلام) كان حزناً على فراقه له وليس حزناً على موته ويدل على ذلك قوله تعالى:
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ 
وفي هذا النص القراني دلالة كافية ووافية على ان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم ان يوسف (عليه السلام) كان حياً، وان حزنه كان على فراقه فحسب والا لو كان يعلم بموته فلا معنى من امره لبنيه ان يذهبوا ويتحسسوا اخبار يوسف (عليه السلام) واخيه، بل ورجاءه ان يأتيه الله بهم جميعاً: 
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ 
ولعل معترض يقول ان يعقوب (عليه السلام) كان لا يعلم ببقاء ابنه حياً، لإنه في فرض ضعف حجة ابنائه في اكل الذئب ليوسف (عليه السلام) لا يمنع من قتله بطريقة اخرى، وان يكون اخوته قد قتلوه ودفنوه واخفوا اثره، ويجاب على هذا الاعتراض ان رؤيا يوسف (عليه السلام) تمنع من قبول هذا الاحتمال فان دلالة رؤياه التي عبرها له يعقوب (عليه السلام) انه سوف يبلغ مبلغاً عظيماً وان الله تعالى سوف يتم نعمته عليه كما اتمها على ابراهيم واسحق (عليهما السلام). 
ومن هنا نستكشف ان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم بوجود يوسف (عليه السلام) حياً وان الارادة الالهية اقتضت ان يبتعد يوسف (عليه السلام) عن ابيه لتجري المقادير الالهية كما يريد الله تعالى.
كما ان التدقيق في الآيات الشريفة يكشف ان ابعاد بنيامين عن يعقوب (عليه السلام) هو بداية مرحلة الانفراج في احزان ال يعقوب (عليه السلام) وان كل ذلك كان يجري ضمن تقدير الهي خاص، فيوسف (عليه السلام) على الرغم من تسنمه منصباً عظيماً في مصر لم يراسل ابيه (عليه السلام) ولم يخبره بمكانه، كما انه على الرغم من شمول القحط لبلاد الشام لم يرسل الى ابيه ليطلب منه الانتقال الى مصر، لقد كانت كل تلك الفترة وتحمل آلام البعد ووجد الفراق للتمهيد لمرحلة الانتقال لآل يعقوب من بادية الشام الى مصر، والبدء بالدعوة الى الله في تلك البلاد، فإن تصدي يوسف (عليه السلام) لإدارة ازمة البلاد القاتلة وانقاذه البلاد من خطر الهلاك جوعاً وفر جواً نفسياً في المجتمع المصري لقبول يوسف (عليه السلام) وال يعقوب (عليه السلام)، ابتداءاً لشعورهم بالامتنان له والثاني لوقوفهم على عجز آلهتهم التي يعبدونها من رسم طريق الخلاص لهم بينما تمكن اله يوسف (عليه السلام) من انقاذهم من الخطر، والاقوام الوثنية كانت تعتقد بآلهة خاصة فاله المصريين للمصريين وليس الها للجميع، بينما وجد المصريون ان اله يوسف (عليه السلام) الهاً للكل ومن قدرته وعلمه ورعايته لعبده يوسف (عليه السلام) حوله من انسان مستعبد في قصر عزيز مصر الى ان يكون هو الحاكم الفعلي للبلاد المصرية، وهذه الحالة من المقايسة المنطقية بين اله يوسف (عليه السلام) وآلهة المصريين  اثرت تأثيراً كبيراً في اعتناق ملك مصر التوحيد ومحاربته لعبادة الأوثان، مما مهد السبل امام قيام ال يعقوب (عليه السلام) بالدعوة الى الله في المجتمع المصري بعد انتقالهم الى مصر، فالخلاصة من هذه المناقشة ان ابعاد بنيامين عن يعقوب (عليه السلام) لم يكن فيه عقوق له بل كان مرحلة مهمة من مراحل التخطيط الالهي لنشر التوحيد في بلاد مصر في ظل يعقوب (عليه السلام) وبنيه، بعد ان اكملوا دورهم في بادية الشام.
واما الاشكال الثاني، وهو عدم قبول يعقوب (عليه السلام) من بنيه ادعائهم البراءة فليس كما يظهر في اول وهلة فإن يعقوب (عليه السلام) تألم من بنيه لتأكيدهم احتمال السرقة من بنيامين حقداً عليه وحسداً له كما كانوا مع يوسف (عليه السلام) حيث قالوا:
﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ 
فإن الذي سولته لهم انفسهم ليس محاولة الاضرار ببنيامين ابتداءاً، بل تماشيهم مع التهمة التي وجهت له واتهامهم ليوسف (عليه السلام) بالسرقة بما يوحي ان السرقة ممكنة في حقه لأنه سبق لأخيه ان سرق، أي ان هناك صفة متوارثة بينه وبين اخيه في السرقة، وهذا التصريح منهم كان امام انظار القافلة المرافقة لهم، فدور اخوة يوسف (عليه السلام) كان سلبياً تجاه التهمة الموجهة الى بنيامين من هذه الجهة، وما سولته لهم انفسهم هو تأكيد دعوى السرقة من قبل بنيامين واتهام يوسف (عليه السلام) بالسرقة من قبل، وهو ما يؤكد استمرار حسدهم ليوسف (عليه السلام) وحقدهم عليه وعلى اخيه، وهو الامر الذي آلم قلب يعقوب (عليه السلام).
ومن هنا يتضح ان موقف يوسف (عليه السلام) وبنيامين كان نقياً من عقوق يعقوب (عليه السلام) وان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم ان يوسف (عليه السلام) كان حياً، وابعاد بنيامين الى مصر كان مقدمة لانتقال ال يعقوب (عليه السلام) الى مصر، اذ ان بعد بنيامين زاد من وجد يعقوب (عليه السلام) واشتياقه الى يوسف (عليه السلام) حتى انه ركز على اسفه على فراق يوسف (عليه السلام) فقال:
﴿وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ 
فائدة اجتماعية 
وهذا المقطع في موقف اخوة يوسف (عليه السلام) يقرر القرآن الكريم فيه قضية اجتماعية في منتهى الدقة وهي ان الحقد والكراهية والحسد من الخصال الذميمة في الانسان التي تدفعه لارتكاب الخطايا واتهام الاخرين بما ليس فيهم، بل والاسهام في تجريمهم في مظهر جناية هي في الواقع برنامج تكاملي للمجتمع الانساني، فوضع السقاية في رحل بنيامين لم يكن سرقة من بنيامين ولم يكن هدفاً انانياً ليوسف (عليه السلام)، بل كان امر تقتضيه المصلحة العليا، ولم يكن ابناء يعقوب (عليه السلام) مؤهلين للاطلاع على السر الذي تقتضيه تلك المصلحة العليا والارادة الالهية والخطة النبوية، وبدلا من ان يكون موقفهم موقف الدفاع عن اخيهم بنيامين لما علموه منه من صلاح وتقى وورع فانهم سارعوا لتأكيد التهمة عليه واتهامه بما هو منزه عنه بل ادعوا ان ذلك امر موروث فيه وفي اخيه.
وهذا المقطع القرآني فيه دعوة الى المجتمع الانساني في التأني في الصاق التهم قبل ان تتبين الحقائق، وعدم اخذ الامور بحسب ظواهرها، فإن تلك الظواهر قد لا تبين الواقع بتمامه، فيحكم المجتمع ظلماً على انسان صالح بما هو بريء ومنزه عنه في لوح الواقع.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=154225
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 04 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28