المكان موحش، ليل دامس مقفر ،لا بصيص نور، ولا نسمة ريح ولا حركة بشر، جدران مقفهره في أخمص الأرض، وعلى ارض المسرح المظلم تراءى للعيان جسد نحيف يتحرك كل حين وقوفا وجلوس دون هوادة .
وفي زاوية المسرح المعتمة صدر صوت غريب، صوت يتلون مع همسات ذلك الجسد الذابل وتمتمات كلماته الغناء، صوت مثقل بالأنين يغرد مع انحناءاته المتكررة لكن دون تبيان.
بدد ظلام المسرح من جانبه اليمين نورا أخاذ بدأ يرتسم ويتلألأ في هالات كبيرة يدور حول ذلك الجسد الضعيف، ويصفق كأشباح نورانية بجناحين ممشوقين، يصطفون بانتظام كل حين قربه مرهفين السمع لتمتماته العذبة كل حين، وراح بحر همسه الحزين يفعل فعلته في الجمهور فيفيض المسرح دموع.
تغير وجه المسرح فجأة وانزاح عنه الظلام الغارق والسكون، وراح الجمهور يدقق النظر ويتطلع نحو الجسد ، فدوى في المسرح صوت صرير الباب الموصد المخيف ممتزجا مع عمق تلك الأنفاس والتمتمات المقدسة الصادرة من شفتي ذلك العظيم الساجد لله آناء الليل وأطراف النهار .
وامتدت من إحدى زاويا المسرح فجأة يدان ضخمتان من خلف الباب المشرع قليلا وألقت شيئا نحوه وعاد الإغلاق من جديد.
عاد الهدوء إلى المسرح من جديد بعد تلك الجلبة المزعجة لصوت الباب الخشبي القديم ، وشفتا الرجل تطلق دفقا من كلمات المناجاة والشوق لرب الوجود فيذوب معها ويذوب الجمهور، حتى انبثقت جملة من الأسئلة دفعة واحدة :
ترى من عساه يكون؟ وماذا يفعل في هذه المطامير؟ وماذا تتلو شفتاه من كلمات تؤسر القلوب، وما خلف ذلك القبو المظلم المخيف من أسرار وكنوز؟
فكت شفرة التساؤلات الكثيرة أضواء المسرح التي بدأت تتقد شيئا فشيئا، لتتضح معالم ذلك الرجل المهيب بكامل صورته وقد تبتل في الدعاء، وبان أيضا مصحفه الشريف الذي افترش مصلاته المهترئة، وعلى الجانب الأخر كشفت الأضواء قدحا وكسرة خبز .
بانت الأصفاد المتوحشة التي أدمت يدي وقدمي الرجل وقد أعاقته عن الحركة، وتوضحت أكثر معالم وجهه النوراني الشريف، الذي راح يشع كنور بدر في ليلة تمامه، وكبر التساؤل في ذهن الجمهور وصاح احدهم من خلف المسرح :
_انه المسيح !!
وصاح أخر: _انه الخاتم الأمين !!
وأخر ومن أقصى المقصورة ردد : بل انه الموعود !!
لكن هاتفا دوى في أروقة المسرح راح يكرر بصوت جهور كل حين :
_بل أنه الإمام الكاظم حليف السجون
انطفأت الأضواء وغيبت الصورة وأسدل الستار على المسرح، وبقايا أنين ارتفع بزفرات هنا وهناك، لملمته الأشباح التي انبرت تصفق بجناحيها حاملة اياه بكل تقديس وتبجيل .
|