صفحة الكاتب : محمود جاسم النجار

وقف أطلاق النار في 8-8-1988 ، هل هو أنتصار أم بداية المهزلة
محمود جاسم النجار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 في مثل صباحات هذا اليوم من عام 1988 .. كنا عائدين من مقبرة السلام الواقعة في مدينة النجف الأشرف بحمى أبا الحسنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين.. بعدما دفنى أحد اصدقائنا ونثرنا التراب على قبره بعدما كان حالماً على الدوام أن يحكي ذات يوم بصوت أنسانيته العراقية .. وأن يعتلي في يوم خشبة المسرح كي يمثل العراق بكل شبابه ، بكل صوره أمجاده ، مأساته ، عنفوانه ، ظلمه ، حره ، برده .. تأريخه ، وفاءه ، غدره .. 
خنقوا أحلامه منذ يوم تخرجه عام 1984 وتلقفوه ليكون حطباً لتلك الحرب اللعينة التي كان يسطر بها القائد المعتوه أمجاده على حساب شعبه وخيرات بلاده ..كان يدرس ويدرس ويخطط للهروب من الجحيم ، جحيم الحرب والوطن ويتحذر الوقوع في شباك الظلم وأن يكون جزء من حطب المعركة ، لكنه رحل .. رحل .
حتى رحيله كان مميزاً معطاءاً ومختلطاً بدراما وكوميديا سوداء تذيب القلوب ، عند عودتنا وجدنا الخيمة قد نصبت وجهزَّ كل شئ فيها رغم الفاقة التي كانت تعيشها عائلته ولكن نيران القهوة العربية الأصيلة موقدة والخيمة ( الجادر ) ممتلئ بأقاربه وأهل المنطقة وأصدقائه ، كان مصاب الجميع والجميع يحبه ، كان نعم الشاب المثقف ورمز للطيبة والأخ للجميع ، كان حزناً مخيماً قاتماً بساعات خلوته حاملاً معه مصائب بلده وناسه وأهله ويعاني الأمرين من قساوة وظلم حكومة جائرة ولباسها الزيتوني المقيت ورجالات الأمن بشواربهم المخيفة كذئاب مفترسة جائعة وكان بلسماً على جروح الجميع يواسي الجميع ومتعاون أليف مع الصغير والكبير . 
مرَّ اليوم الأول من الفاتحة كان البكاء والأسف عنوان للجلسة وصوت قارئ القرآن عبد الباسط عبد الصمد يصل إلى ابعد جدار من جدران منطقتنا ، كانت الخيمة مقسمة بدايتها لأهله وأقاربه لأستقبال المعزين ولجيرانه وأهالي المنطقة وكان قسم الأصدقاء نشيطاً وحافلاً بالذكريات معه وذكر مآثر الفقيد ، متواصين فيما بيننا أن تعقد مثل هذه الجلسة في حال استشهد أحد الجالسين منا ، يجب ان تستمر صداقتنا حتى بعد الرحيل ، كان الكل متعاون لخدمة الناس الجالسين في الخيمة ، من تقديم القهوة والسكائر والماء وغيرها من الأعمال المطلوبة في ليلة جنائزية حزينة كهذه . 
في نهاية المساء من اليوم الأول بعدما ذهب الجميع ، سمعت الأطلاقات النارية في كل مكان والهلاهل ، لا يعلم أحد ما سببها ، بعدها ركضنا لداخل البيت وفتحنا التلفاز ، ذاك الذي مملنا بالجلوس إليه من كثر الموت الخارج منه والكذب الذي يظهر على شاشته ومن الظهور الدائم لوجه القائد المقزز وهو يعطي دروسه الخرقاء لشعب الحضارات والقيم ، تلك التي لو تمعنت بها لا تستطع أن تجمع منها جملة مفيدة واحدة ممكن أن تخدم بها طفل صغير ، استمعنا إلى بيان مجلس قيادة الثورة من خلال المذيع مقداد مراد وهو يقول بصوت عالٍ جهور بأسم بيان البيانات ، فهمنا من خلالها أن الحرب توقفت وعمت الفرحة كل البيت والشوارع وكل الأزقة .. إلآ أنا كنت أبكي بلا وعي  عندما سمعت المذيع يقول 
أحتفلوا بيوم الايام .. احتفلوا أيها العرب .. احتفلوا كلُّ بطريقته
صرخت بأعلى صوتي حتى ظن الجميع أني قاربت الجنون .. صرخت من أعماق قلبي بجنون ، تباً للحروب وتباً لكل السياسات الخبيثة التي أطاحت بكل ذلك الكم الهائل من الشهداء ، من الشباب ، الطاقات ، كم هائل من الأحلام هناك زلقت للتيهان ، أنهار من الدموع سيلت على فقدان أو رحيل  ، كم من اليتامى قهروا ، كم من الأرامل ثكلت ، كم من أسير ومفقود ، كم من المدن تهدمت وكم ...وكم ..وكم .
كان جميع أهلي فرحين لما سمعوه بايقاف الحرب ، أمي كانت تهلهل بأوتار قلبها لا بأوتار حنجرتها ، حالها في ذلك كحال ملايين من الأمهات الطيبات المتأملات الخير والفرح بأبنائها ، لآنها ضمنت أن هناك على الأقل فرصة للحياة من جديد لأبنائها ومستقبلهم ومستقبل الأمان في بلدهم ، كان الجميع يحاول تهدئتي ، كي لا تلصق بي عاهة الجنون التي أنتشرت آنذاك بين العقلاء والشباب والمثقفين ، خصوصاً بعدما دبَّ يأس السنين الثمانية وعششَّ في قلوب وعقول أغلب المساكين العراقيين ، جلبوا لي كاس من الماء البارد ، بعدها دخلوا بعض اصدقائي يسحبوني للخارج للترتيب لأحتفالية العمر وأحتفالية الخلاص ، الخلاص من كابوس أظلم قاتم خيم على نفوسها وسمواتنا وصباحاتنا وأطرتنا بمئات الآلاف من البينات المقيتة .. التي صبغت شوارعنا وبيوتنا باللون الأسود من اللافتات السود التي تحمل عنوانها ( الشهداء أكرم منا جميعاً ) تلك التي اللآية التي اقتبسها من القرآن وأنسبها لنفسه قائد الضرورة صدام الذي حطم البلاد والعباد .
خرجنا للشوارع هاتفين ، حالمين كالناجين من محرقة الموت والدمار المحققة .. نجينا .. نجيبا بعدما لصقت بمخيلة وعقول الجميع ذاك الدمار وباسماعه اصوات تلك القنابل والصواريخ القادمة عبر سموات الموت من صوب حدودنا الشرقية ، تلك الحدود التي كان شبابنا يدافع عن شرف بوابة الأمة العربية وعن قصور أمراء الخليج ومترفيها ، كنا الحطب وكان القائد وزمره وأمراء الخليج يشعلونها ويصبون الزيت عليها ، هم يعيشون بقصور الجنان والملاهي الليلية والدعار ونحن بنتظلى بنارها والموت والكفاف رفيقنا .. رقصنا كما رقص الجميع والكل يهني الكل بأنه الحياة الجديدة قادمة والكل يفرح كما قال القائد بطريقته .. نسينا شهيدنا بعض الوقت لنستحضرهم جميعاً مرة واحدة .. رقصنا رقصة الألم كالمجانين ننظر للجميع يهتف بحياة القائد وبالنصر المبين ، ترى اين نصر وأين هو المبين ، أي نصر ونحن استنزفنا كل طاقاتنا وخسرنا أعمارنا وتوقفت كل حياتنا .. لننسى ايها المحتفلون كل شئ ونفكر بالغد والعوض في رؤوسنا وأهلينا واصدقائنا وما تدمر يمكن أن يعمر من جديد ... لكننا لن ننسى  شهداؤنا ما حيينا ، أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجلنا ، اولئك الأبرياء .. ستبقى فرحتنا منقوصة بغيابهم .
على المنصة الرئيسية ظهر القائد المعتوه يلوح للجميع بعدما ينزع بلدته العسكرية وابدلها بدشداشته البيضاء والعقال العربي يعتلي رأس المعتوه بتمايل وتبختر ويلوح للجميع ببده المنتصرة كأنه يوزع الخير بتوازن على شعبه عندما تمر من فوقهم يده ، كأنه يخبر الجميع أن أحتفلوا أيها الأغبياء أيها الحطب وأنكم نجيتم اليوم وغداً لناظره قريب ، ليحتفل كل منكم بطريقته ، انسوا واحرقوا كل مآسيكم التي جرت عليكم ، لأني صنعت لكم المعجرات ، وأنني أركعت الخميني للحق بعدما جعلته يعلن وبلسانه انه يتجرع كأس السم بقبوله وقف اطلاق النار  ، واني حفظت الشرف العربي وبوابته لكم .. كانت الناس التي في رأسها عقول لا تأبه لكلامه المعتوه ذاك ولا لتبختره الفارغ ، تعرفه ونعرفه ..بأننا لم نحقق اي نصر سوى ضياع عمره 8 سنوات وأنه لم يعيد القدس لأهلها ولم يقم لنا ولهم أعراس طمأنية  .. توحدت الفرحة في قلوب الجميع بسبب الخلاص من الموت الذي كاد يستمر إلى ما لانهاية .
كانت ومضة بسيطة من بعض ايام شبابنا المسوّر بالحروب والحزن والضياع والفقدان ، كلنا يتمنى أن يجد بصيص من أمل في غده ، لليوم لأحد ياوسية ويعوض له أيامه التي تناثرت في مهب الريح ، لم نجد غير الأنتكاسات وهذا ما ابكاني اليوم عندما قرأت بعض الكتابات التي تحاول أن تسمي هذا البوم بالأنتصار وبتغنون بحامي البوابة الشرقية بعد 23 وعشرين عاماً .. من كان يظن أنه انتصار في حينها ، يمكن أن نجد له العذر لآن الحقائق كانت خافية وأن الجميع كان تحت سطوة القائد والبعث والسلطة ، ولأنه الخلاص من الموت له وللناس جميعاً ، أما من يقولها ويتغني بها اليوم على أنه انتصار ويمجد بأمجاد ذلك المعتوه ، فهو أما أن يكون مازال غافلاً أو أنه مازال مصراً على رفع راية الظلمة بتمجيد القاتل وأهانة الشهداء ، ومن كان يسميه سعداً ووقاصاً وقادسية .. والشرف العربي وبوابتها الشرقية ، هاهم كافئوا العراق بإهلاكه أقتصادياً وأغراقه بالديون ، بعد نهاية حرب إيران مباشرة اخذت دول الخليج تضخ البترول بارخص الأسعار عن طريق الأوبك حتى أوصلت برميل النفط لسبعة دولارات وحطمت بهذا اقتصاداتنا وحيواتنا ، بعدما استفادت هي من تعطيل العراق 8 سنوات متتالية في الحروب وبيعه بأعلى الأسعار ، خلالها بنت اقتصادها وأصبحوا يتنعمون بالخير بينما نحن نغرق ، كان الجميع يتوقع من أن لنا دين الدفاع عنهم وعن شرفهم وأنهم سحتفظوا بالجميل ما عاشوا ويتنعموا به ، لكنهم ناكرين للجميل حاقدين وهم منفذي لسياسات اسيادهم القذرين وهذا ما كشفته سنينا الأخيرة . بل هم من حطوا بلداننا وهجرونا وافقرونا وجلبوا لنا غربان الشر وجمعوها من كل أقطاب الأرض .
ايها العراقيون قبل العرب أنصفوا موتانا ، شهدائنا ، جرحانا ، شبابنا الذي ضاع بتلك السنين وما تلاها ، كفاناً خداعاً لأنفسنا ، لنواجه أنفسنا بأن زمن الأنتصارات ذهب منذ زمن بعيد ، فما حرب اكتوبر والعبور وتشرين إلا مهزلة وخسارة مدمرة بل عالعكس وسعت اسرائيل نفوذها ، مثلما ما كانت عليه القادسية ، فماهي إلا حرباً نيابية عن أمريكا لمواجهة اميركية بسبب كرامتها التي هدرت خلال ثورة ايران والتي كانت تدار به الحرب هي  بأموال وجموع من الشهداء والأسرى والجرحى العراقيين ، استخدموا حطباً لها وبدعم شيطاني خليجي حاقد ، إبتداءً من السعودية والكويت وبقية دول الخليج ، كانت مسرحية دفعنا ثمنها أرواحنا بلادنا وقبض الثمن اولئك المتربعين على كراسيهم خاسئين من البعثين والمتملقين والأصوليين والقتلة وسماسرة الحروب وتلك الدول الخليجية التي عاشت على مص دماؤنا والسير على جثث موتانا .. افيقوا يا بشر يا أهلنا فأنتم بهذا تنكأوا جراحنا من جديد وجراح أهالينا الشهداء وكما قال أبا العلاء المعري  ..  خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد . 
كفى هذا التمجيد بالقتلة .. انظروا أمامكم وأعرفوا أن الله حق وأن العراق هو للعراقيين وليس لكم أخوة حقيقين إلا اخوتكم في الوطن العراقي .. وما البقية إلا أخوة يوسف حاقدين .. أزرعوا شجرة بدل أن تقعطوها لتظلل على أهلنا وعلى أرواح شهداؤنا وأوقدوا شمعه لتنير الدرب لأبنائنا وأبناء شهداؤنا .. كفانا حروباً ، اليوم تستحضر كل أرواح الشهداء والنبلاء والذين فقدوا أرواحهم في غياهب السجون والأسر ، اليوم يجب أن نلعن الحرب والطغاة ومن أوقدَ نارها وضيع بلادنا وبدد خيراتنا .. اليوم يجب أن نتصدى لأولئك الأقزام الذي دافعنا عن شرفهم وأعراضهم لمدة 8 أعوام ، اليوم لنتوحد جميعاً لنوقف مشاريعهم الخبيثة اليوم لنرمي رشفة من ماء الورد بوجه بعضنا لترطب قساوة الحر وتلين قلوبنا .. رحمة الله على شهدائنا جميعهم أولهم وآخرهم والرحمة لبلدنا والدعاء بهذا الشهر الفضيل أن يديم الأمن والسلم على ربوع بلداننا ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمود جاسم النجار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/08/08



كتابة تعليق لموضوع : وقف أطلاق النار في 8-8-1988 ، هل هو أنتصار أم بداية المهزلة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net