صفحة الكاتب : ادريس هاني

ماذا تعني الأنسنة في بيئة هذيانية؟
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أجد من الصعوبة الحديث عن مشروع إنساني على الطريقة التي يحتفل بها الخطاب الرومانسي أو حتى ذلك الخطاب الذي يحجب نزعته التدميرية باستعمال مفاهيم الأنسنة..ليس الأمر هنا نابعا من تشكيك في مؤسّسات الطغيان البشري ودورها في تخريب المعنى الجميل للأنسنة، بل نظرا لخواء هذا المفهوم من معنى واقعي ونظرا لمثاليته التي تكاد تكون على مسافة من واقع الإنسان الفردي والجمعي على السّواء..تقوم الأنسنة على الشعر..والشعر غالبا ما يتسم بالكلّيانية وحجب غير المرغوب فيه من مثالب في مدارات المديح..الصورة الشعرية للأنسنة باتت تعويضا أيديولوجيا عن واقع ينوء بالخراب والتوحش..في زمن صعود خطاب الأنسنة هناك ميلاد أسوأ أشكال التّوحّش..هذا التّوحش بات جزء من هندسة سياسية كونية غايتها تأبيد التناقض في عالم يعيش على ثنائية مخادعة..الشّر المتلبّس بنكهة الأنسنة بدل الشّر الساذج، شرور القدامى: الشّر الخالص..الاقتراب من التحليل النفسي يجعلنا نشكك في إمكانية صناعة الكائن المؤنسن..إن صناعة الأنسنة هي واحدة من الدعوات الرومانسية التي ستستمر ولكن عبثا، لأن المؤسسة الكونية تتجه إلى مزيد من صناعة التّوحش، ولكنه توحّش هجين..إنسان مستذئب..إنسان مفترس عائد من حياة القبور وغايته الإفناء..إنسان غير مؤنسن..

عادة ما نجهد أنفسنا في البحث عن أسباب موضوعية للإرهاب الذي بات جزء من حياتنا..في المنطقة العربية التي يراد لها أن تطبّع مع هذا النشاط الذي بات اعتياديا..التطبيع مع الجريمة يقتضي إشاعتها وديمومتها..التطبيع مع المحتل يتطلب إشعال نار الجريمة التي تغطّي على كل جرائمه التاريخية تمهيدا للتطبيع.. قد يكون جزء من المهمة تمّت بالفعل، فالشعوب باتت لا تميز بين جريمة الاحتلال وجريمة ما اصطلح عليه تبيتا بـ" المعارضات المسلحة"..التحليل النفسي يوقفنا أمام هذا الضرب من الهذيان..من السلوك الهذياني الجمعي..من الإحساس العارم بالمؤامرة والاضطهاد..المجتمع العربي كما نخبه تعاني من بارانويا حادّة جدّا..الواقعية هنا حتى في تدبير الخطاب تنتفي أو تعالج بمفاهيم غير واقعية.. في الرؤية والتحليل والخطاب..كيف نظفر يا ترى بالإنسان في بيئة مهيّئة لصناعة كائنات هذيانية؟ أي معجزة تلك التي تجعل بيئة المرض تفرز الإنسان في حدوده الدنيا بله صناعة الإنسان الكامل؟ الطبيعي في بيئة مهيّأة لصناعة الهذيان الجمعي أنّ يغيب فيها الإنسان السّوي وبالتّالي الأنسنة دعوى تحجب كل الأسباب الموضوعية لعدم قيام الأنسنة..نتساءل ما خطورة ما يحدث اليوم إن كان من الطبيعي أن يبلغ التوحش سقفه الذي معه يبدو توحشا طبيعيا؟ لعلّ حنا أرندت كانت قد اقتربت كثيرا من جوهر الحقيقة، حينما تعاطت بواقعية مع حادثة أدولف أيخمان في ( آيخمان في أورشليم)..هنا نقف على الشّر الاعتيادي..هنا يبدو الشّر نفسه إنسانيا..حينما يقوم شخص نازي باقتياد مجموعات إلى الموت ويتصرّف بطريقة بيروقراطية اعتيادية.. الذين يقومون بهذا الفعل الشنيع ليسوا بالضرورة شياطين أو بسيكوباتيين بل هم أناس عاديون يشبهون آيخمان..في بيئة تستفحل فيها البارانويا من الطبيعي أن يتحوّل الإنسان الاعتيادي من حالة الخضوع لتحكم عوامل الإهانة إلى حالة المشاركة.. هو بالفعل ما يحدث اليوم في مجتمعاتنا، حيث شرائح كثيرة خضعت لغسيل دماغ مستمر تظهر عواطفها تجاه هذا الحدث وتظهر حسها الإجرامي تجاه حدث آخر..الحديث عن ازدواجية المعايير لا قيمة له هنا لأن الشخصية الهذيانية هي شخصية تعيش على الازدواجية..التطبيع مع الجريمة ينبثق من داخل ذات هذيانية..هي نفسها الشخصية التي تهتزّ أمام مشهد إنساني ما ولكنها تبرر أعمال إجرامية هناك..بل هي نفسها التي تعتبر المجرم يؤدي عملا وحشيا هنا ولكنه يؤدي عملا إنسانيا هناك..القضية الأساسية في الفعل الإرهابي والجرمي هو النّذالة..الذين انخرطوا في موجة الإرهاب هم أناس عاديون..سبق ومارسوا حياتهم العادية..وربما تجد منهم من كان موسوما بالليونة..من المسؤول يا ترى عن تحول الكائن الاعتيادي إلى إرهابي إن لم نتحدث عن اعتيادية الشر كما ذهبت حنا أرندت؟

اعتيادية الشر تمنحنا فهما لحقيقة الإنسان..أي حينما يتصرف الإنسان مع شروره بصورة اعتيادية وطبيعية..هذا الفعل يتطور عبر مراحل من التأثير السلبي..بما أنّنا نتحدث عن أن الأنسنة هي مكتسب وليس طبيعة فإن هذا يعني أنّ الشّر جزء من هذه الطبيعة المزدوجة..فمهمة الأنسنة هي في التخلص من الشرور التي ألهم بها الكائن كما ألهم الأنسنة..التحدي الأكبر هو كيف نجعل الكائن على الأقل لا يمارس شرّه بصورة اعتيادية؟

في السلوك الجمعي لحضارة قلقة نبدو أمام تحدّي استحالة الأنسنة..حتى التحليل النفسي كما نحى جاك لاكان لم تعد وظيفته العلاج..بل فهم النفس الإنسانية..ذلك لأنّ العلاج أمر يكاد يكون مستحيلا..كيف تعالج نفسا لا زلنا نحاول القبض على حقيقتها..التحليل النفسي لا سيما إن شئنا القول التحليل النفسي اللاّكاني يعطينا مدى أبعد لفهم هذا الحراك المرضي الجمعي ، إذا ما استطعنا أن نربط بين اللاّوعي واللغة من جهة، وبين علاقة الحلم بالدلالة وليس بالمدلول أيضا..في واقعنا الذي بات يشبه حلما شريرا..كوشمار مرهق..يجب أن لا نبحث في لغة الإرهاب وكل أشكال الضحالة السياسية عن المدلول الذي تقصده بل علينا الوقوف على رموز ما نراه كدلالات تحيلنا إلى بنية اللغة..ليست اللغة مسخرة لتفسير بنية اللاوعي بل هي نفسها بنية اللاوعي..ما نشهده اليوم هو لغة الغريزة في تعابيرها المنظمة..اللاوعي ليس أحمقا ولا مجنونا بل هو ممنهج ودقيق ولكنه يمارس اندفاعته وشروره باعتيادية..تفجّر اللاّوعي وهزم في نهاية المطاف جهاز الآنا الأعلى..ذلك الجهاز الذي يعاني اليوم الهشاشة والاختراق..هي حالة من انقلاب اللاّوعي على الوعي..حالة لا يجدي معها الخطاب الرومانسي للأنسنة..الأنسنة التي تغفل عن أنّ السياسة نفسها هي مسرح لصراع قديم/حديث بين الغريزة والضمير..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/25



كتابة تعليق لموضوع : ماذا تعني الأنسنة في بيئة هذيانية؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net