صفحة الكاتب : نزار حيدر

في كربلاء..تحرّر العبيدُ واستُعبِدَ الأحرار
نزار حيدر

 
   الحرّية؛ كلمةٌ خفيفةّ عند النّطق ثقيلةٌ في المواقف، فهي لا تتجلّى الا عند الامتحان ولذلك قيل: عند الامتحان يكرم المرء او يهان، فكم من رجل يدّعي انه حرٌ اذا بلقمةٍ تستعبدُه او دينار يفقدهُ صوابه او سلطة او جاه مؤقتٍ ينسيه دينه وربه وقيمه ومبادئه؟ ولذلك قال سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام {النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون}.

      والحريّة اذا كانت مستقرّة لا يفرّط بها صاحبها بأي ثمن مهما غلا، كما هو حال سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام، الذي أبى الذِّلَّة  وأثر القتل على العبودية، وهو القائلُ في خطابه {ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثرَ طاعة الّلئام، على مصارع الكرام} امّا اذا كان صاحبها يتصنّعها فتراه يبيعها بأبخس الاثمان لمن يشتريها منه، كما هو حال عمر بن سعد مثلا.

   ولقد أراد الحسين (ع) بنهضته ان يحرّر الناس من عبودية النفس والشيطان والهوى والأهواء والمصالح الضيقة والأنانيات، عبودية الجهل وعبادة الشخصية وصناعة الطاغوت، فقال لمن تجمهر لقتاله:

   {ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم} كيف؟ لانّ مجرّد انْ يكونَ العبدُ حراً فسيفعل الشيء الصحيح ويبتعد عن الخطأ، لانّ الحرّيّة أساس التفكير السليم، ولولا عبودية الناس لأهوائهم وشهواتهم لما اختار احدٌ طريقاً خطأ أو زاغ عن الحقّ أبداً.

   في كربلاء تجلّت الرجولة، عند رجال عاشوراء ونسائها، بأبهى صورها، فتميّز من ادّعى التحرّر عمّن ظنّ به الناس العبودية، بين من استقرت عنده الحرية ومن تصنّعها، اذا بالعبيد يتحررون والاحرار يُستعبَدون.

   فهذا (جون )العبد الاسود، يدخل التاريخ من اوسع ابوابه، ليس عبداً، أبداً، وانما حراً أبياً كريماً، يتّخذ قراره بعيداً عن الاهواء والشهوات والقناطير المقنطرة، فعندما يقول له الحسين عليه السلام:

   {انت يا جون في اذنٍ منّي لتنصرف بأمان وسلام، فانّما تبعتنا للعافية، فلا تبتلي بطريقتنا}.

   يردُّ باختيارٍ حرٍ لا فرض فيه ولا اكراه، وبكلام واعٍ ومسؤول:

   يا بن رسول الله: انا في الرّخاء ألحَسُ قصاعكم، وفي الشدّة اخذلكم! والله انّ ريحي لنتن وانّ لوني لاسود وإنّ حسبي للئيم فلا والله لا افارقكم حتى يطيب ريحي ويبيضّ وجهي ويشرف حسبي ونسبي.

   ثم يرتجس ويقول:

        سوف يرى الكفار ضرب الاسود

         بالسّيف ضرباً عن بني محمّد

             اذبّ عنهم باللّسان واليد

            ارجو به الجنّة يوم الموعد

   على العكس بالضبط من هذا النموذج الرائع، وقف آخر بالضد والنقيض من هذا الموقف.

   آخر، ظنّ به الناس خيراً، وتوسّم فيه كثيرون الحريّة، خدعهم مظهره ومنظره و (هيبتَه القياديّة) ومن حولِه الحرس والخدم والحشم، اذا به أخسّ العبيد، باع آخرته بدنيا غيره، فخسر الدنيا والاخرة، انّه عمر بن سعد، الذي جاء على رأس الجيش الاموي ليقتل سبط رسول الله (ص) موهِماً الناس بانّه حرّ.

   أرسل اليه الإمام الحسين عليه السلام؛ إني أُريد أن أكلّمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك.

   فخرج إليه عمر بن سعد بعشرين فارسا والحسين في مثل ذلك.

   ولما التقيا أمر الحسين (ع) أصحابه فتنحّوا عنه وبقي معه اخوه العبّاس وابنه علي الأكبر، وأمر ابن سعد أصحابه فتنحّوا عنه وبقي معه ابنه حفص وغلام له يقال له لاحق.

   فقال الحسين لابن سعد: ويحك أما تتّقي الله الذي إليه معادُك؟! أتقاتلُني وأنا ابن من علمت؟!

   يا هذا ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنّه اقرب لك من الله.

   فقال له عمر: أخاف أن تُهدم داري.

   فقال الامام: أنا ابنيها لك.

   فقال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

   فقال الامام: أنا أخلُف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

   فقال العبد عمر: لي عيال أخاف عليهم.

   فقال الامام: أنا أضمن سلامتك.

   ثم سكت العبد الذليل فلم يجب الامام عن ذلك، وانصرف عنه الإمام الحسين (ع) وهو يقول: مالك، ذبحك الله على فِراشك سريعاً عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرِك ونشرِك، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلا يسيراً.

   أي عمر؛ أتزعم انّك تقتلني ويولّيك الدّعي بلاد الرّيّ وجرجان على مصارع الكرام! ألا وإني زاحف بهذي الأسرة على قلة العدد، والله لا تهنأ بذلك، عهده معهود، فاصنع ما أنت صانع فإنك لا تفرح بعدي بدنياً ولا آخرة وكأني برأسك على قصبة يتراماهُ الصّبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم.

   اما العبدُ عمر بن سعد، عبد الشهوة والسلطة والجاه والمال، فقال:

          فو الله ما أدري وإني لحائر                

         أفكّر في أمري على خطرين

        أأتركُ ملك الرّيّ والرّي منيتي               

        أم أرجع مأثومًا بقتل حسين

     حسين ابن عمي والحوادث جمةّ            

        ولكنّ لي في الرّي قُرّة عيني

   نموذج ثالث، هو حرٌّ الا انّ العبودية كادت ان تأخذ منه ماخذاً لولا ان تداركها بموقف شجاع وبطولي وتاريخي، اذا بلحظةٍ واحدة فقط تزحزحُه من النّار الى الجنّة، وتنقله من الّلعن الى الترضّي، وتأخذ به من سوء العاقبة الى حسن العاقبة والذكر الطيّب والخلود مع الحسين (ع) واصحاب الحسين (ع).

   انّه الحرُّ بن يزيد الرياحي الذي قاد جيشاً اموياً ضد سبط رسول الله (ص) ولكنّه ما ان عرف الحقيقة حتى حكّم حريته ولم يدع العبودية تسيطر عليه.

   في ساحة المعركة وقبل النّزال، يلتفت الى ابن سعد، قائلا:

  اصلحك الله، أمقاتلٌ انت هذا الرجل؟ يردّ عمر: اي والله، قتالاً أيسرهُ ان تسقط الرؤوس وتطيح الايدي.

   يرد عليه الحرّ:

   أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضىً؟.

   لم يجبه العبد عمر، فبدأ الحرُّ يفكّر متحيّراً قبل اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، فَلَحَظَ رجلٌ الحرّ وهو يقترب من الحسين (ع).

   ما تريد يا بن يزيد؟ أتريدُ ان تحمِل؟.

   الحرّ يتقدم ولم يجب بشيء.

   يقول له الرجل: والله انّ امرك لمُريب والله ما رأيتُ منك في موقف قط مثل شيء اراه الان، ولو قيل لي من أشجع اهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتُك، فما هذا الذي منك؟.

   هنا كان الحرّ قد اتّخذَ قراره النهائي، ان يتمسك بحريته فلا يدع شيئا يستعبدُه، حتى منصب القيادة لم يؤثر على حريته او يخدشها: اني والله اخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ووالله لا اختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحرّقت.

   ثم يتقدم الى الحسين (ع) وهو يدعو ويقول:

   اللّهُمَّ اليك أنبتُ فتُبْ عليّ، فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائِك اولاد بنت نبيّك.

   ويضيف مخاطبا الحسين (ع):

   جعلتُ فداك أنا صاحبُك الذي حبسك عن الرجوع وجعجعَ بك، وما ظننتُ أنّ القوم يبلغون بك ما أرى، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى فهل ترى لي من توبة؟.

   يرد عليه الحسين (ع): نعم، يتوب الله عليك فانزل يا حر.  

      يردّ عليه الحر:   

     أنا لك فارساً خيرٌ منّي لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري.

      ويضيف:

   كنتُ أوّل من خرج عليك فأْذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك لعلّي أكون ممّن يُصافح جدّك محمّداً صلى الله عليه وآله غداً في القيامة.

وعندما يستشهد الحرّ يمسح الحسين (ع) التراب عن وجهه ويقول:

   أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، حرّاً في الدّنيا والآخرة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نزار حيدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/10/19



كتابة تعليق لموضوع : في كربلاء..تحرّر العبيدُ واستُعبِدَ الأحرار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net